من البديهي القول إنّ الإنسانية جمعاء هي أفضل حالاً مع إحتواء الإمكانية النوويّة الإيرانية، وكَبت التسابق إلى التسلّح النووي، وعدم الوقوع في «المُعضلة/المأزق الأمني» (Security Dilemma) الذي سيتسبّبه الأمر إقليمياً ودولياً. فهل كانت تركيا لتقبل بقنبلة نووية فارسية؟ ماذا عن المملكة العربية السعودية؟ وهل كانت ستبقى ألمانيا واليابان خارج أندية الدول النووية؟
الإتفاق وُقّع، لكن لتاريخه لا أحد يعرف ما ستكون عليه الإنعكاسات الإقليمية، ولا على وضعنا الداخلي في لبنان. في الوقت عينه، يُمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
– الأولى هي بداية مرحلة جديدة قد يكون فيها الصراع مختلفاً، والتعاون بين الأعداء ممكناً.
إنّ عملية جسّ النبض تتم عبر زيارات معلنة أو سريّة، وتشمل الأميركيين والأوروبيين، والفرس، والأتراك، والعرب، وقد تصل إلى حدّ زيارة الأمين العام للأمم المتحدة سوريا. ويبدو أنّ هدف هذا النشاط هو تطوير مسودّة عمل مُشترَك ومُنسَّق بين السعودية (ومصر، والأردن، وقطر)، وتركيا، وإيران، قد ينعكس على الساحة السورية.
ليس حتمياً القول إنّ ذلك سيُنهي حرب الإستنزاف في سوريا، ولا نهاية الصراعات والتناقضات والحروب على أرضها، لكن، ذلك يعني من دون أدنى شك بداية مرحلة جديدة قد يكون فيها الصراع مختلفاً، والتعاون بين الأعداء ممكناً.
من النتائج الأولى لهذا الجمع بين التناقضات والأعداء هي التطورات الميدانية في عدن، وفي العراق، وداخل الأراضي السورية على الحدود الشمالية بين سوريا وتركيا، وفي قاعدة أنجرليك الجوّية في تركيا. وفي ما خصّ سوريا، يبدو أنّ هناك عملاً منسّقاً بين الأعداء المحليّين والإقليميّين والدوليّين ضدّ «داعش» والإرهاب.
ومن الطبيعي أن يفتح هذا العمل المشترك آفاقاً جديدة للتعامل بين الأضداد مبنيّ على المصالح والتكتيكات السياسية والديبلوماسية والعسكرية – الأمنية. في الوقت عينه، لن يعني ذلك توحيد الأهداف بين الأعداء ولا إنتفاء الصراعات ما بينهم.
فلتركيا والسعودية وإيران، وللأطراف السورية الداخلية، ولـ»حزب الله»، أهداف ورؤى مختلفة عن «داعش» والأكراد والسنّة والعلويين والنظام في سوريا. ومن المرجَح أن يكون هذا التناقض بين العمل المشترك والتقاتل عنوان المرحلة الجديدة.
– الثانية هي دخول تركيا العسكري المباشر داخل الأراضي السورية.
قد يكون التدخّل التركي المباشر في سوريا من أهمّ التغيّرات – التناقضات التي تكلمنا عنها في الملاحظة الأولى للإتفاق النووي. وفي هذا الإطار يُمكن النظر إلى دعوة الرئيس الأميركي لإيران وتركيا وروسيا إلى العمل سويّة لمكافحة الإرهاب.
ويمكن لأيّ مراقب لمجرى الأحداث على الحدود السورية – التركية التمييز بين لعبة متناقضة الأطراف لتركيا. فهي لها مخاوفها من تثمير المال المجمّد المرتقب تدفّقه على إيران بعد الإتفاق النووي في دعم الثوار الأكراد في شمال سوريا. ومن جهة أخرى، تركيا مُتلهّفة «لاقتصاديات طريق الحرير» وللفرص الإقتصادية التي قد تتأتى من هذا المال.
ولا شك في أنّ تركيا بعد الإنتخابات الأخيرة هي غير تركيا قبلها. ومن هنا، يزِن الجيش التركي، وبدقة، الدور الكردي على حدوده، ودور «داعش»، والنظام، والعلويين، والمصالح الروسية في طرطوس… ويُقرّر خياراته في شمال سوريا، آخذاً في الإعتبار المخاوف العربية، وخصوصاً السعودية، من «العثمانية» الجديدة ومن «مرج دابقٍ» جديد.
ومن هنا لا يجب أن نستغرب وجود دورين متناقضين لتركيا في سوريا، بحيث تُعادي نظام الرئيس السوري بشار الأسد وتسعى إلى إسقاطه من جهة، وتحمي علويّيِ سوريا من الخطر الإرهابي في ظلّ رعاية روسية وإيرانية، من جهة أخرى. وربما عملت هذه الأطراف سوية في المستقبل، مع الهاشمية في الجنوب، لمحاربة الإرهاب.
واستطراداً، وكما قال السفير البريطاني طوم فليتشر الأسبوع الماضي، إنّ «سايكس- بيكو» الجديد سوف يرسم خطوطه الأطراف المحليون. ونرى بالتالي أنّ على الأكراد والعلويين وغيرهم من الأقليات في المنطقة، رسم مستقبلهم من خلال مروحة تعتمد إما النار والحديد أو الديبلوماسية والواقعية السياسية، وحتى الدمج بينهما من خلال إستراتيجيات مُعقّدة، يتقاتل فيها الجميع من أعداء وحلفاء، ويتحالف فيها الجميع أيضاً مع أعدائهم وحلفائهم.
– الثالثة هي تأثير الإتفاق النووي في الداخل الإيراني وفي طموحات تصدير الثورة.
إنّ الأموال المُنتظر فكّ تجميدها وما يمكن أن يستتبعها من إنفتاح إيراني على الإستثمارات العالمية، سوف يجلب الأفكار والآراء المُختلفة مع إنتقال للأجانب إلى إيران وسفر الإيرانيين إلى الخارج. وسوف يشعر الإيرانيون الذين هاجروا على أثر الثورة الإسلامية بالحنين لإعادة التواصل مع البلد الأم. إنها ديناميات متجدِّدة ستنعكس تغييرات سياسية وإجتماعية داخل إيران.
ومن المرجَح أن تأتي هذه التغيّرات في أطر تطوّرية (Evolution) وليس ثورية (Revolution). وتكفي عودة إيران إلى ميدان الشرعية الدولية والأنظمة العالمية لمعالجة الأزمات ومقاربة المصالح وحلّ الخلافات، لتدعيم موقف الأطراف الداخلية «المعتدلة» فيها.
فهل وصَل طموح تصدير الثورة إلى ذروته وحقَّق ما يُمكن بلوغه وبدأ الآن وقت التراجع؟ يقول البعض إنّ الثورة بحدّ ذاتها أصبحت مُعمِّرة وكهِلة وفقدت زخمها الداخلي. وعلى المستوى الإقليمي، لعبت ما يُمكن أن تلعبه من أوراق. ففي العراق، الجار الأقرب للثورة، وعلى رغم التجربة الأليمة التي عاشها الشيعة تحت حكم صدام، ومن التنسيق العميق مع إيران والحرس الثوري اليوم، لم يُبايع الشيعي – العربي – العراقي ولاية الفقيه.
وحتى في لبنان، حيث النجاح الوحيد والفعَّال لهذه الثورة خارج حدودها، هناك مَن يقول إنّ إمكانات «حزب الله» تُستنزف كلَّ يوم في لبنان وسوريا وفي أرجاء الدول العربية كافة. وهناك مَن يتساءل من الشيعة اللبنانيين عن جدوى التضحية بشبابهم على أرض سوريا واليمن والعراق، وبأرزاقهم في الخليج العربي، في وقت هم في أمس الحاجة إليهم في لبنان.
– الرابعة هي دخول إسرائيل على خط المعارك في سوريا.
لا بدَّ من التوقف أمام أنشطة إسرائيل الجوّية الأخيرة وقصفها لأهداف في منطقتَي القنيطرة والقلمون، وطائرة الإستطلاع المعادية التي سقطت في طرابلس. ولا يخفى على أحد نوايا إسرائيل ومتابعتها لمجرى المعارك والأحداث على الساحة العربية عموماً، وعلى الأرض السورية خصوصاً.
ولكن يجب النظر إلى هذه الأعمال من خلال منظار رفض إسرائيل المعلَن للإتفاق النووي وما قد تستحصل عليه من الولايات المتحدة، وتركيا، وأوروبا، وحتى من إيران كضمانات لأمنها ومصالحها. وبالتالي جمع التناقضات الذي تكلمنا عنه لن يستثنيَ أحداً.
إنّ النظرة الواقعية لهذه التطوّرات تُجبر كلّ فريق، أكان قوياً أم ضعيفاً، على إعادة النظر في تقويمه للموقف الحالي وفي خياراته الإستراتيجية. فالمنطقة دخلت عتبة مرحلة جديدة، وهناك «شائعات» شبه مؤكدة في نيويورك تقول إنّ الأمين العام للأمم المتحدة سيزور سوريا خلال الشهر الحالي، في دلالة على الأمر. فهل يستفيد الأطراف اللبنانيون من هذه المؤشرات ويعتمدون الواقعية المُعقدة فينتصرون؟ أم يبقى كلّ فريق على اصطفافه العامودي، فنَهلك؟
هذا الإصطفاف العامودي الذي يؤيّد فيه كلّ فريق لبناني حليفه الإقليمي، لن يؤدّي إلى نتيجة. ذلك أنه لن يكون هناك رابح إقليمي واحد ولا خاسر إقليمي مطلق. ومن الطبيعي أن يدفع اللبنانيون ثمَن التقارب كما ثمَن كلّ تباعد واقتتال.
إنّ المطلوب الملح اليوم، يبقى في العمل على خيارات وطنية بواقعية، نلعب فيها تماماً كغيرنا على التناقضات. والمفتاح الأساس في هذه المُقاربة المُعقّدة عودة كلّ الأطراف إلى كنف الوطن للتجديد في عقد وطني – إجتماعي مُنتج يؤمّن مصالح وأمن جميع اللبنانيين.
• من مؤسسي فوج المغاوير وقائد سابق للقوة الضاربة – قائد القوة المشترَكة لحماية لجنة التحقيق الدولية في لبنان – الملحق العسكري السابق في واشنطن – مسؤول سابق لأمن اللجنة المشترَكة للأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية في سوريا.