لا يمكن أي لبناني، أياً تكن هويته المذهبية أو الطائفية أو الحزبية، إلاّ أن يشكر ربّ العالمين على نِعمِه الكثيرة… وأولها عدم إكمال دائرة البلاد وإحكام إقفالها! وثانيها إبقاء التدرّج قائماً لجهة المفاضلة بين السيئ والأسوأ ورسو النتيجة عند السيئ! وثالثها منح الكثيرين فضيلة رؤية إيجابيات محققة من حالات سلبية لا جدال فيها وفي متانتها!
ليس أمراً بسيطاً أو عَرَضياً (مثلاً) أن يبقى الوضع الأمني على ذلك القدر من الاستقرار والترابط برغم كل المؤشرات العكسية، بدءاً من مناخات العسكرة التي يشيعها «حزب الله» مع كل ملحقاتها التعبوية والتحشيدية، ومن ذهابه إلى سوريا لمشاركة بشار الأسد في «تحريرها» من أهلها، وصولاً إلى ترسّخ الانقسام السياسي على خلفيات مذهبية وطائفية واضحة وصريحة! مروراً بـ»تفاصيل» تتعلق بنمو شروط تأزّم معيشي خطير، يتعلق جزء منه بضمور النقد وتنامي العوز وتراجع حضور «الطبقة الوسطى».. وجزء آخر بضمور الخدمات البديهية المتصلة بالماء والكهرباء وسلاسة السير على الطرقات مثلاً!
وليس أمراً عَرَضياً أو خفيف الوزن، أن يكون الحوار السيئ خيراً من معركة جيدة. وأن يقرّ اللبنانيون بالإجماع، بعجزهم عن تكسير بعضهم أو فرض صيغة أحادية من جهة على أخرى! وأن يقرّوا في موازاة ذلك وبالإجماع أيضاً بعجزهم عن إنتاج توليفة صحية وصحيحة وصالحة لقيام الدولة وانتظام عمل مؤسساتها.
هذا إنجاز محلي مرموق ويرقى إلى رتبة الإعجاز: فشل مكوّنات دولة في إنتاج دولة من دون أن يعني ذلك نجاحها في تظهير دويلاتها الذاتية النائمة في النفوس والنصوص!
وهذه لعمري والحق يُقال، نعمة كبرى لا يُقلل من رحابتها وكرمها وجودتها، تعدّد آليات شكر ربّ العالمين عليها! ولا الادعاءات الاحتكارية للطرق الواصلة بين الأرض والسماء. ولا الاستمرار في اعتماد الضجيج لتأكيد الهدوء الآسر الذي تعنيه الصلاة وبكل اللغات! وهذه الأخيرة في كل حال، لا تقتصر على هواتها المحليين وإن كانوا سبقوا غيرهم فيها، بل صارت واحدة من أبرز سمات المنطقة والعصر، بحيث أن لبنانيين كثراً يشاطرون أهل الجوار القريب والبعيد في افتراض ضرورات الاشهار والإظهار لتأكيد الانتماء الديني والحيثية المذهبية.. وكان ذلك محمولاً لو وقف الأمر عند حدود الصوت والكلام والرنين والطنين، ولم يصل إلى مواصيله الراهنة (خارج لبنان!) حيث شيوعة القتل توازي شيوعة الهواء! وتعدد الهويات والأهواء!
غير ذلك ودونه، يبقى أيضاً من مقومات النِعَمْ التي لا يجوز إنكارها: ضمور الدولة وركاكتها والتباس حضورها وغياب حقوقها الحصرية في امتلاك السلاح أولاً وأساساً، وتحكم النزاع في أول مؤسساتها.. ذلك كله وغيره لم يكن كافياً لإتمام إنضاج يأس قتّال: الفراغ سيئ لكن تعبئة الفراغ بالعدم أسوأ! الوضع اللبناني سيئ، لكن الوضع السوري (أو اليمني أو الليبي أو العراقي) أسوأ! وهذه حدود الكلام.. والسلام!