ألف الرئيس المكلّف في مصر الحكومة كما يراها من خلال الأكثرية أن تتألّف. المعارضة خارجها برمزيّتها وأثرها.
في تونس عملية غير سهلة في التأليف، لكن من منظومة المعارضة والموالاة: أكثرية وأقلية… في سوريا لا حكومة ولا معارضة ولا موالاة ولا انتخابات ولا رئيس سيادياً أمام تشرذم البلد في كانتونات تسيطر عليها عدّة قوة احتلالية أو وصائية مثل إيران وتركيا والولايات المتحدة، وإسرائيل (الجولان)، وروسيا… أَحكومة من رئيس ولا شعب، أَبلدٍ ورئيس بلا شعب؟ في العراق فاز جناح مقتدى الصدر بالأكثرية في الانتخابات الأخيرة. لكن العقد بدأت تستعصي على التأليف: فإيران تريد تعويض هزيمتها المدوّية، في ذلك البلد العربي. وها هو سليماني، ظلّ خامنئي، يتدخل لعرقلة التأليف: العقبات تتكاثر. فالخارج، أي بلاد فارس، لا يمكن أن يقبل نتائج الانتخابات التي خذلته ومعه نوري المالكي، والحشد الشعبي (الإيراني المنشأ)؟ وقد تمتدّ الأزمة طويلاً…
وها نحن في لبنان: فرَشوا الحرير للرئيس المكلف سعد الحريري، وهطلت الوعود بتسهيل تأليفها، أولاً من حزب سليماني، فنواب «لبنان القوي»، فنواب «الجمهورية القوية» فالحزب التقدمي الاشتراكي وحتى أنصار سوريا في لبنان الذين «أيدوا» تكليف الحريري تشكيلها. كأنما إجماع وطني يوحي أنّ كل الأمور ستجري بطلاقة، وبإحساس «تاريخي» بضرورة تسهيل مهمة الرئيس المكلّف.
كان كل ذلك قبل بدء عملية الاستشارات. ومَن لا يعرف أنّ حكومة الحريري (كما يسمّونها)، يؤلّفها الحريري نفسه، ويقترحها على رئيس الجمهورية. وهكذا فعَل.
سافر الحريري، واندلعت المعارك بين المتحاصصين. واستؤنفت لعبة ما درجَ الناس على تسميتها «الإلغاء» و«الاختزال». ومن كبار مختزلي نتائج الانتخابات سليماني الذي صرّح بعنجيهة غبيّة: «حزب الله» نال 74 صوتاً من أصل 128. أي اختزل كل مكوّنات 8 آذار (السابقة أو اللاحقة) في حزبه. وهكذا طوّب سليمان فرنجية، ونبيه برّي، والأحباش، والقوميين، كأعضاء منتسبين إلى الحزب.
هكذا بجنون العظَمَة، تعويضاً عن تحطّم «قوسه» الفارسي أو هلاله الصهيوني، في متخيلات «إيران الكبرى» ونظنّ أن مثل هذه التصريحات من شأنها أن تؤثر سلباً على التأليف. إلى ذلك اندلعت حروب الأرقام والاستئثارات والغلبة لتولّد عقداً جديدة: كتلة جعجع تتهم التيار الوطني الحر بإلغائها وتطالب بأن تُعامل بالتساوي عددياً في الوزارة مع التيار الحر. ومن دون المفاضلة والانحياز يمكن أن نذكر مطلب التقدمي الاشتراكي بحصر التمثيل الدرزي في الحكومة أي استبعاد طلال أرسلان. وها هو جميل السيّد يطلّ من خلف منصّة الشهادة في المحكمة الدولية (والتي قد تتحوّل اتهاماً) ليُطالب بوزارة العدل المتصلة بآليات المحكمة. وها هي كتلة الرئيس برّي ترى من حقوقها المشروعة تولّي وزارة المالية انسجاماً ومقررات مؤتمر الطائف. وها هو «حزب الله» يُشدّد في البداية أنه يريد وزارات سيادية ثم يتراجع.. فالصراع امتزج بين ما هو تنافس داخلي وخارجي: العالم يمدّ يده إلى لبنان ليساعده على تجاوز أزمته الاقتصادية، ولبنان ونواب «أمّته»، غارقون في حساباتهم الصغيرة، ومعاركهم الإلغائية، ومطالبهم «التعجيزية»، بنبرات حاسمة لا تقبل الجدل، ضاربين بعرض الحائط ضرورة التسريع والتسهيل في التأليف لمعالجة الأمور الأمنية، والنازحين، والاقتصاد.
كما أن «نظام الله المختار» أي إيران يحق له الدخول إلى بلد يُفترض أنه سيادي، كأنما بحرّية تلغي الحدود بين لبنان وسوريا وإيران والإرهابيين، ومهربي الأسلحة والمخدرات، والمسلحين الهاربين من اليمن إلى لبنان، فيكون لبنان أو يستمر معبراً للمسلحين والإرهابيين إلى بعض الدول العربية. فلبنان العربي كأنه صار «لبنان الحوثي»، أو «لبنان سليماني»، أو «لبنان الأسدي» (وهل ننسى تسييب الحدود بين لبنان وسوريا بنجاح ميشال سماحة بإدخال المتفجرات بسيارته لارتكاب مجازر جماعية، تثير حروباً مذهبية، وتقضي على إمكانية قيام الدولة الواحدة؟).
العُقد المجموعة
وقد جُمعت كل هذه العقد، المُفتعل كثيرها، لتنفجر في وجه الحريري بعد عودته من السفر، ليحل العُقد النفسية والنرجسية والمصالح «الضيقة»، ويوفّق بين ما تصوّره، وبين طوفان المطالب المتضاربة. جمع الكل ما عنده من «أزمات» ليحمّل الحريري مسؤولية فك طلاسمها؛ وها هي إحدى الصحف الموالية لخامنئي، تحلّل على طريقتها. وتعنون في مانشيتاتها «تأليف الحكومة ينتظر قرار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان»، فبرأت 8 آذار والجميع، وحصرت الأزمات المتراكمة بأسباب خارجية، أي بنظرية «مؤامرة» تعرقل التأليف. لم ترد هذه الصحيفة على تصريحات سليماني المخزية، المريضة، بل أحالت القضية على المملكة العربية السعودية. المفجع في توالي «عواصف» المطالب، والإحراج، تدلّ في بعض جوانحها، أن العديد من القوى يسعى إلى إضعاف الحريري، ووضعه في عنق الزجاجة، تمهيداً لإفشاله قبل التأليف وبعده، ونظن أن السهام لا تصوّب من جهة واحدة، بل من جهات عدّة، تتفق في ما بينها، على تناقضها على تصوير الحريري ضعيفاً، ليكون، لقمة سائغة إما عبر الخضوع للمطالب المتضاربة، التي من شأنها أن تكون قنابل موقوتة داخل الحكومة العتيدة أو خارجها. والكل يعرف أن مثل هذه العقبات وتمطيط عملية التأليف، تؤثّر سلباً على تنفيذ مقررات المؤتمرات الاقتصادية والأمنية التي اتخذتها الدول الأوروبية وسواها، لمساعدة لبنان لا سيما «مؤتمر سيدر» الذي يركز على الوضع الاقتصادي الحساس في لبنان، لمساعدته على النهوض. والغريب أن كل هؤلاء المنتفضين في حروبهم الدونكيشوتية يصرحون بأنهم يؤيدون قرارات «سيدر»، ويعترفون بهشاشة وضع الليرة والاقتصاد نفسه. (لا ننسى أن بعض الصحف وصف مؤتمر سيدر بالاستعماري الذي يهدّد سيادة لبنان…!). وتجاوزاً لهذه الترهات التي تأتي من جهات كل همّها اختراق السيادة والحدود والديموقراطية، خدمة لإيران، فالذين يُفترض أنهم منطقياً وتاريخياً «حلفاء» الحريري، ها هم يتصدّرون الحملات على بعضهم، لزرع البلبلة، وتمديد الأزمة، التي قد تصل إذا واصل هؤلاء (من كلا الجانبين المتصارعين أصلاً)، إلى آماد، تذكرنا بأن بعض الحكومات استغرق تأليفها سنة أو أكثر من دون أن ننسى «إحداثيات» الانتخابات الرئاسية: سنة ونصف سنة من الفراغ الرئاسي! فهل يريدون إفراغ مساعي التأليف من مضامينها وأولوياتها وتهميشها لتُختزل في مطالب هامشية، تطمس العناوين الإصلاحية الكبرى التي اقترحها الحريري كأساس لتأليف حكومات. ولا نظن أن ما يجري من فلتان في مناطق البقاع، أمني، وأخلاقي وتسيّب وفساد، ببعيد عما يضمره هؤلاء من نيّات مبيتة لرئيس الحكومة المكلف، كأنما يريدونه أن يبقى وحده في هذه الساحة المكتظة بالمعطيات التفصيلية والداخلية والخارجية. وهنا بالذات يحاولون خلط الأوراق بين مبدأ المعارضة والموالاة استمراراً لإلغائهما. لا معارضة ولا موالاة بل مجرد صراع «مذهبي» مقنع بلا أفكار ولا محتوى ولا مادة نقاش، ولا سجال. فلتقتصر المسألة على تأكيد أن هذا البلد محكوم بالفراغ السياسي. بل إن الصراع السياسي بات معدوماً. فعندما تختلط الأمور بين مَن يعتبرون أنفسهم معارضة وموالين وتبادل المواقع والمواقف، فيعني أن البلاد ماضية في تعميق «الصراع» المذهبي الخالص، من دون تسويته برؤى مستقبلية، أو وعود، أو ديموقراطية. تناسى مَن يجب ألا يتناسى مسألة السيادة، والحرية، والحدود، والاقتصاد ليجهد في إعدام ما في هذه المبادئ من قِيَم ملتصقة بلبنان الحديث. بل كأن العديد من هنا وهناك ركب المركب الانقلابي على كل إنجازات المرحلة السابقة، سواء الاقتصادية والنمو الذي تحقق مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والعمران، والسياحة، والعلاقة بالعرب، وبإيران.
الخطوط الأمامية
كل هذه الخطوط «الأمامية» السابقة صارت من خلفيات مجهولة، مدفونة في أعماق الضمائر الوطنية الميتة. هنا بيت القصيد؟ إبقاء كل شيء على حاله: الفساد بكل أنماطه وفنونه وحقاراته.. وضع خطة تُعالج سلاح «حزب الله»، دعم الجيش اللبناني والقوى الأمنية، وإيران على حالها تتبجّح بهيمنتها على لبنان، وتحويل استباحتها الحدود والمرافئ بواسطة حزبها، إلى استباحة كاملة لها، والتدخل في شؤونه، وكأنما لم يبق لها من «امبراطوريتها» الورقية سوى لبنان، بعد هزائمها المدوية في سوريا والعراق واليمن. فكأنما يكررون كلام الشاعر الفلسطيني محمود درويش: «بيروت خيمتنا الأخيرة».
وضمن هذا الإطار لا يترددون مع بعض الجهات الخاضعة لهم، أو الموالية للمجرم بشار الأسد، من العبث بقضية اللاجئين السوريين، في حملة مشبوهة يريدون منها عودة هؤلاء النازحين، من دون ضمانات عربية أو دولية، ليرموهم في أحضان الذي هجّرهم، وهدم منازلهم وشردهم بالملايين، ليعودوا بشروط هذا المجرم، ليسترجع استعباده لهم، وإجبار شبابهم على التجنيد، والمشاركة في قتل أهلهم! ولا تقتصر هذه المحاولات على «حزب الله» وحليفه (البيدق في أيدي الروس)، بل إلى صفوف من الضفة الأخرى!
عاد الحريري من سفره وأمامه هذه الملفات والتشنّجات والمطالب «الشائكة». ومَن يعرف رئيس الحكومة يؤكد أنه سيحاول تجاوزها، بطريقته المعهودة المرونة والصلابة في الوقت ذاته. التوفيق بين المواقف لإيجاد حل لها. التحدّي الكبير لأن العصي عديدة في الدواليب، لكن برغم ذلك لا بد من أن نتوقع تحدياً كبيراً في معالجة هذه الأمور، لكي لا ينفلت كل شيء، ومعه المساعدات الغربية والعربية ومقررات «سيدر».
إنها حالة «طوارئ» على الضفتين: أمنية واقتصادية من جهة وسياسية مبطنة من جهة أخرى.