IMLebanon

التفاهم الصعب

 

على رغم أنه يُستحسَن دائماً الابتعاد عن الأحكام النهائية في اعتبار أنّ الأحداث وتطوّراتها كفيلة بإحداث تغييرات غير متوقعة، إلّا أنّ الثنائية بين «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» لا يمكن أن ترتقي إلى ثنائية حركة «أمل» و»حزب الله» ويستحيل أن تستعيدَ زمن البدايات.

قد يعترض البعض على مصطلح «إرتقاء العلاقة» وكأنّ الثنائية الشيعية نموذجٌ يجب تعميمُه والاقتداءُ به، وهذا البعض حرّ في رأيه ووجهة نظره، ولكنّ الواقع السياسي في لبنان يحتِّم تحالفاتٍ من هذا النوع لتجنّب العبث بالتركيبة الميثاقية كما كان عليه الوضع في زمن الوصاية السورية وما بعدها، أو كما يحصل اليوم مع الدروز على رغم النتيجة الحاسمة للحزب التقدمي الإشتراكي، فيما لولا الحاجة الماسّة للرئيس سعد الحريري المحلية والدولية ورغبة «حزب الله» بالابتعاد عن الحساسيات المذهبية لكانت عقدة تمثيل سُنَّة 8 آذار العقدة الأبرز.

منطق الثنائية الذي اعترض ويعترض عليه البعض وتمّ تشويهُه ليس مقفلاً ولا إلغائياً ولا موجَّهاً ضدّ المستقلّين مثلاً أو غيرهم، إنما كل الغاية منه الإمساك بناصيّة القرار تحقيقاً للشراكة والتوازن. وفي مطلق الحالات شكّلت ثنائية «القوات» و»التيار الحر» حاجة لإيصال العماد ميشال عون إلى سدة رئاسة الجمهورية وإقرار قانون جديد للانتخابات، ويبدو أنّ الأمرَ قد انتهى عند هذا الحدّ.

وفي هذا السياق قد يخرج البعض عن اللغة الاستراتيجية إلى اللغة الشعبويّة بأنّ ما تقدّم أكبر دليل الى أنّ «القوات» أخطأت في رهانها على فريقٍ انتزع ما يريده من اتّفاقٍ سياسيّ وتراجع عمّا لا يريده، ولكن ما أقدمت عليه «القوات» كان نتيجة ظروف سياسية لا خيارات بديلة فيها، وكان وما زال وليدَ إقتناعٍ بضرورة تكريس ثلاثية الرؤساء التمثيليّين بعيداً من الاستثناءات في الرئاسة الأولى، كما أنّ خيار ترشيح عون كان وليدَ إقتناعٍ بأنه لا يجب ترسيخ فكرة أنّ «القوات» حالت دون وصوله الى قصر بعبدا وبالتالي حرمت المسيحيين واللبنانيين من إنجازات ستنقلهم إلى دولة أحلامهم.

فالوزير جبران باسيل خاض الانتخابات بخلفيّة رئاسية وهو قال علناً إنّ الأكثر تمثيلاً ينبغي أن يكون رئيساً للجمهورية، وهذا ما يفسّر التحالفات الغريبة والعجيبة التي أبرمها والتضييق على «القوات» انتخابياً، وكل ذلك لغرض وحيد هو الخروج بأكبر كتلة ممكنة للقول «أنا مَن سيخلف الرئيس عون»، علماً أنّ المنطق يقول إنّ مَن يفترض أن يخلف عون هو الدكتور سمير جعجع لرمزيّته التي تضاهي رمزيّة عون، ولحيثيته التي لا تقلّ عن حيثية عون، وبالتالي حتى لو أنّ التفاهمَ السياسي بين الطرفين لم ينصّ على هذه المسألة إلّا أنّ منطق الأمور يقول ذلك.

وكما فتح جعجع طريق بعبدا أمام عون يُفترض بالأخير أو باسيل أن يعمل الأمرَ نفسَه مع جعجع على رغم أنّ المسألة الرئاسية ليست مسيحية حصراً، وإنما تتّصل بتوازناتٍ محلّية وخارجية، وفي الإمكان الفصل بين الموقع التمثيلي وبين النزاع الوطني تماماً على غرار الحريري في رئاسة الحكومة، فليس ضرورياً أن تكون شخصية 8 آذارية في السراي الحكومي ليطمئنّ «حزب الله» إليها، فيما اطمئنانُه متأتٍ من رفض أيّ فريق العودة إلى مربّع الانقسام الذي يُدخل البلد في متاهات لا رابح فيها، فيما لا خيار سوى انتظار تطوّرات الإقليم بغية حسم الصورة النهائية لمشروع الدولة في لبنان، فضلاً عن أنّ التجربة «القواتية» الوزارية والنيابية قدّمت دليلاً الى القدرة على الفصل بين ما هو سيادي ومعلّق وما هو إصلاحي ويمكن المبادرة في اتّجاهه.

وإذا كان الرهان على استنساخ الثنائية الشيعية قواتياً وعونياً أصبح في خبر كان، فإنّ الرئيس التمثيلي سيصبح بدوره في خبر كان، وإذا كان انتخابُ جعجع متعذّراً فإنّ انتخابَ باسيل مستحيل ليس بسبب «القوات» هذه المرة، وإنما نتيجة إجماع القوى السياسية على رفض شخصه بسبب دخوله في مواجهاتٍ مجانية مع كل تلك القوى.

ومعلوم أنه لا يمكن أيّ اتّفاق أو تفاهم أن يستمرّ في حال لم يكن في الاتّجاهين، وإصرار باسيل على وقف العمل بالاتّفاق السياسي الذي ينصّ على المناصفة لا يصبّ في مصلحته لأربعة أسباب أساسية: لأنّ «القوات» قادرة على أن تتمثّل أفضل تمثيل وفقاً لتمثيلها الشعبي؛ ولأنّ دخولها الى الحكومة ليس هو مَن يحدّده؛ ولأنه كان في استطاعته أن يسلِّفها من كيسها باللعب على تضخيم حصة الرئيس؛ ولأنه أصلاً لم يلتزم بالاتّفاق سياسياً وإدارياً وكان في استطاعته أن يستمرّ على هذا المنوال.

فخروجه من الاتّفاق هو لمصلحة «القوات» لا مصلحته، وأما المصالحة فشأنٌ آخر وهي من مصلحة الطرفين، ولكنّ النظرية التي تقول إنها خدمت «القوات» على حساب «التيار الحر» غير صحيحة على الإطلاق، وإلّا فليتراجع باسيل عنها كما تراجع عن الاتّفاق السياسي وهو المدرك أنّ الرأي العام ملّ من الخلافات التي تعود عقوداً إلى الوراء فيما هو يتطلّع إلى عقود إلى الأمام، وهذا بالذات الذي صبّ في مصلحة «القوات» التي رآها الرأي العام بفعل الاستقرار السياسي والانتظام المؤسساتي وليس المصالحة لأنها جدّية في شعاراتها وعناوينها وأهدافها وممارستها نظيفة وشفافة، فيما ممارسة باسيل لم تكن على قدر الوعود التي أُغدقت للناس.

القاعدة العامة تقول إنّ كل شأن في الحياة يتطلّب متابعةً وملاحقةً وصيانة، لأنه لا يوجد ما هو نهائي ومحقّق وغير قابل للانعكاس، ولكن يجب الإقرار أنّ التفاهم مع باسيل ومَن يمثل صعبٌ وشاق، فهو يتعامل وفق مبدأ «إن لم تكن معي فأنت ضدي»، ولا يبدو أنه في وارد الفصل بين السياسات العامة المتصلة بتأييد العهد، وبين الملفات الحكومية ومن ضمنها مثلاً ملف الكهرباء، فلا يُعقل لفريق أن يؤيّد أيَّ شيء خلافاً لاقتناعه تحت عنوان «إحترام التفاهم»، وما ينطبق على «القوات» في هذا الملف ينسحب على «حزب الله»، فلماذا لا يأخذ الموقف نفسه من الحزب؟ فيجب التمييز بين ما هو شأن عام وما هو سياسات وطنية كبرى. وعدم التمييز يعني أنّ هناك فريقاً يريد استتباع الآخر، الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق مع «القوات»، فيما كل هذا الموضوع يحتاج إلى النقاش مجدّداً في محاولة قد تكون الأخيرة للتفاهم على حدود الاتّفاق والاختلاف في ظلّ قراءتين مختلفتين تماماً للتفاهم.

وفي أيّ حال فإنّ مَن يتابع مسار العلاقة منذ حكومة العهد الأولى إلى اليوم لن يجد صعوبةً في رسم فصول هذه العلاقة في المستقبل، وإذا كان رئيس «القوات» نجح في استيعاب توتّر التأليف وفكفكة ألغامه، فهذا لا يعني أنّ النجاح سيبقى القاعدة فيما هو في الحقيقة مجرّد استثناء، وعلى حدِّ قول المثل الشائع إنّ «المكتوب يُقرأ من عنوانه»، فإنّ مرحلة ما بعد التأليف ستكون أكثرَ دقّةً وصعوبة من مرحلة التأليف وحكومة تصريف الأعمال، لأنّ هناك مَن يعتقد أنّ العدَّ العكسي لرئاسته قد بدأ وأنه سيتصرّف على هذا الأساس بدءاً من محاولة مواصلة إضعاف أو تحجيم خصومه تحقيقاً لأهدافه، والاعتقاد الغالب أنّ المرحلة المقبلة ستشهد اصطفافاتٍ من نوع جديد بدأت طلائعُها أساساً بالظهور مع حكومة تصريف الأعمال.