IMLebanon

الاستثمارات الخطرة والدروس

 

 

من الاقتصاديين الكبار الذين درسوا الأسواق لعقود «برتون مالكييل» الذي يبلغ اليوم عمر الـ90. قال انه لا يمكن الفوز على الأسواق وبالتالي الأفضل للمستثمر أن يختار محفظته المالية كصورة عن مؤشر الأسواق، وبالتالي تكون مخاطره منخفضة وعائده أيضا. أما المضارب الذي يرغب بالمخاطرة، فلا تروق له أفكار مالكييل بل يتوجه الى أمكنة أخرى كالأسواق الرقمية والمشفرة التي ازدهرت بالرغم من مخاطرها الكبيرة. كما أن المستثمرين أنواع، فلا بد وأن تكون الأدوات المالية المناسبة أنواعا أيضا.

 

في أسواق العملات الرقمية والمشفرة وأسواقها الحديثة نسبيا، هنالك فضائح كبرى تظهر يوميا نتيجة ممارسات الجشع البعيدة كليا عن النظافة والأخلاق. منذ خلق «البيتكوين» تتوسع وتتنوع هذه الأسواق الجاذبة التي توفر للمستثمرين فرصا للربح الكبير مع المخاطر العالية. مر العالم في السابق في ظروف سيئة عديدة مع «برني مادوف» وغيره، لكن ما يجري اليوم في الأسواق الجديدة يطيح بكل ما سبق. طبعا استغلال المواطن أسهل بكثير عندما تكون الأسواق جديدة وغير مفهومة وأحيانا معقدة. هنا لا بد من تذنيب المواطن أو المستثمر بسبب وضع ثقته بسرعة في مؤسسات وأشخاص لم يجربوا بعد وفي أسواق يجهلها تماما. الرغبة في الربح تطيح أحيانا بالمنطق وتجعل المستثمر أعمى في وجه المخاطر والاستغلال. ما جرى مؤخرا بشأن بورصةFTX المشفرة هو مضرب مثل لهذه التجارب الكبيرة السلبية التي يجب التعلم منها.

من الغرائب هو أن رئيس الشركة SBF كان يعتبر حتى منذ أيام قليلة مضرب مثل للتفوق المالي والفكر العظيم، وكان يعتبر قائدا للاصلاحات المالية المنتظرة ولمستقبل الأسواق. كان من المتوقع أنه سيغير بفضل أفكاره وكفاءاته طبيعة وهيكلية الأسواق المالية الأميركية والعالمية. تشير الوقائع الى استغلاله لأموال المستثمرين الذين وضعوا ثقتهم به. ها هي الدعاوى القضائية تبدأ بعد افلاس الشركة وبعد ان رفضت شركات أخرى شراءها أو مدها بالأموال المطلوبة. وصلت قيمة الشركة قبل الافلاس الى 32 مليار دولار، أما الآن فلا تساوي شيئا. كيف يمكن لشخص عادي في الثلاثين من عمره أن يدهش مجتمعا ماليا قديما ناضجا في أميركا وأوروبا خلال سنوات قليلة ويدفعه نحو الهاوية. لا بد لعلمي النفس والأعصاب من أن يتدخلا للتفسير والتحليل وربما المعالجة.

المطلوب من رئيس الشركة أن يفسر للمجتمع الدولي كيف تذوب شركة ضخمة كليا خلال أسبوع؟ لم يسبقه أحد على هذا الانجاز التاريخي. من ناحية أخرى، هل يمكن اعتبار افلاس الشركة نهاية للأسواق المشفرة؟ في الحقيقة ليست هي أول افلاس، لكنه ربما الأكبر والأسواق استمرت، ومن المرجح أن تستمر اليوم في وجود طلب عليها من المغامرين بالرغم من كل شيء. لم تخضع الأسواق المشفرة لأي رقابة، وهي أسواق مريحة للمضاربين الذين يجدون فيها المخاطر المناسبة لتحقيق أرباح كبيرة وأحيانا خسائر كبيرة. المضارب يرغب بالربح طبعا، لكنه يعلم في نفس الوقت أن الخسائر ممكنة لكن يأمل بأن لا تحصل.

في الواقع تجارة العملات المشفرة زادت كثيرا مؤخرا بسبب الأوضاع الاقتصادية العالمية المتردية ورغبة المستثمرين بتحقيق أرباح كبيرة وسريعة غير متوافرة في الأسواق العادية. سرقات كبيرة لهذه العملات قدرت بملياري دولار تمت هذه السنة بسبب غياب أي رقابة جدية وحماية مدروسة. تقلبات أسعارها كانت تدعو الى تطبيق الرقابة وهذا ما لم يحصل. توسعت الأسواق المشفرة من لا شيء منذ 15 سنة الى ما يقارب 3 آلاف مليار دولار قبل الأزمة الحالية، وها هي تذوب مجددا كما ذكرنا.

هنالك موضوعان مهمان مرتبطان بالأسواق المشفرة:

أولا: لم تستطع هذه العملات أن تحل مكان العملات الورقية العادية كالدولار واليورو وغيرهما لأنها تفتقد الى المزايا الأساسية لأي نقد وهي الثقة التي تمنحها للعملات العادية المصارف المركزية. تقلبات الأسعار المشفرة يجعلها لا تحفظ القيمة، وبالتالي غير صالحة للتبادل التجاري على المستوى الوطني والشعبي. تحاول المصارف المركزية انشاء عملاتها الرقمية التي يمكن أن تكون بديلا للنقد العادي شرط حماية الخصوصيات والسريات التي يتمتع بها التبادل النقدي العادي بالاضافة الى استقرار أسعارها.

ad

ثانيا: اذا وضعت الرقابة على العملات المشفرة، فهل تبقى مرغوبة من قبل من يطلبها اليوم؟ أحد أسباب وجودها والرغبة بها هي مخاطرها وأرباحها الكبيرة وبالتالي اذا تمت الرقابة تصبح كغيرها من العملات أو المؤسسات أو البورصات الكلاسيكية. لا يمكن طلب الشيء ونقيضه، وهذا ما يحصل اليوم.

سقوط الأسواق المشفرة عبر أهم مؤسساتها وقياداتها والخسائر التي تحققت للمستثمرين العاديين العالميين تتطلب من الخبراء وضع بعض الدروس للمواطنين حماية لهم. من أهم هذه الدروس نقترح ثلاثة:

أولا: عدم الثقة بالمبشرين أي البائعين للربح المشفر، وهنالك العديد من الغشاشين في تلك الأسواق كما في غيرها. معظم هذه الشركات توظف أشخاصا معروفين في عالم الفن والشهرة للترغيب، وهنا يكمن نضج المستثمر في الاصغاء وعدم التهور.

ثانيا: الثقة مهمة جدا في أي عملية استثمارية، اذ ان بناء قصور في اسبانيا لا ينفع ماليا وماديا. يجب الخوف والحذر من الأشخاص الذين يدعون المساعدة في عالم المال، وهم يعملون للايقاع بمن لا يملك الحصانة الفكرية والعلمية الكافية.

ثالثا: لا تقترض للاستثمار في هذه الأسواق، لأن المخاطر مرتفعة ولا تريد أن تخاطر من الجهتين أي المصدر والتوظيف. هنالك فارق كبير بين الاستثمار والمضاربة، كما بين التسلية والمقامرة. الاستثمار هي عملية تفيد المستثمرين كما المجتمع عموما أي الاقتصاد العام والنمو. لا تهدف المضاربات الى هذا الخير العام، بل يمكن أن تكون كذلك بالرغم من مخاطرها المرتفعة. أساس الحماية يكمن في الشخص نفسه، أي ضرورة درس ما يقدم له قبل التنفيذ.