لوحظ في السنوات الأخيرة ما قبل الانهيار أنّ مصرف لبنان كان يعمل على التأسيس لعملة رقمية، وإطلاقها في السوق اللبنانية. وقد أفصَح عن هذه العملة، في أكثر من مناسبة، وعن أهميتها في السوق المحلية، باعتبارها المَمر الآمن لانتقال الاقتصاد اللبناني من الاقتصاد التقليدي إلى الاقتصاد الرقمي، ومجاراتها للاقتصادات المتطورة، القائمة على تكنولوجيا المعلومات.
اختلف المشهد اليوم واختلفت الإستراتيجيات وانهار الإقتصاد وانحَنت البلاد. لذا، نسأل أنفسنا في الأولوية: ما هو مصير العملة اللبنانية، والعملات الأجنبية المتداولة في السوق المالية اللبنانية؟ لا شك في أنّ قيمة الليرة اللبنانية تتدهور يوماً بعد يوم، نتيجة خسارة الثقة بالإقتصاد اللبناني والثقة بلبنان.
لكن، يجب أن يعرف الجميع أن قيمة ما كان يُسمّى بالدولار الأميركي الموجود في المصارف، هي بدورها تتدهور بشكل كبير جداً، باعتبار أنّ قيمة هذه الودائع في حد ذاتها لم يعد في الإمكان مقارنتها مع القيمة الحقيقية للدولار الحقيقي. والسبب يعود إلى أنّ المودعين لم يعد في مقدورهم الحصول على هذه العملات الاجنبية، وحتى لو استطاعوا ذلك فإنهم سيحصلون عليها بأسعار مرتفعة جداً، ويخسرون قسماً كبيراً من قيمتها الاساسية.
لذا، ما هي قيمة هذه الودائع بالعملات الأجنبية المجمّدة في المصارف اللبنانية؟ نُسارع إلى القول: إنّ القيمة والمعادلة واضحة جداً، إذ إنّ قيمة الدولار تعني كم نستطيع أن نحصل عليه في السوق المحلية السوداء المسمّاة «بنك نوت».
– (Bank Notes) في حال أراد المودع صَرفه في السوق السوداء (بنك نوت)، وعليه أن يعرف ويقبل بأنّ هذه هي قيمته الحقيقية، علماً أنّ المساعدات الدولية من قبل صندوق النقد الدولي أو مؤتمر «سيدر»، في حال تم ضَخها الى لبنان في يوم من الأيام، فإنها ستُضَخ لمساعدة المشاريع الإنمائية والبنية التحتية، ولم ولن تُضخ في السوق المصرفية او لمصلحة المودعين المغبونين من قبل الدولة التي صرفت مدّخراتهم.
واقع الحال، ما هي قيمة الليرة اللبنانية التي لدينا، باعتبار أنّ طباعة المزيد من العملة الوطنية وضَخّها في السوق المحلية سيُعرّضها إلى المزيد من فقدان قيمتها على نحو أسرع من المتوقع؟ إنّ قيمة الليرة اللبنانية تتدهور على نحو أكثر من السوق الحقيقية. لذا، من أجل أن يدرس صندوق النقد الدولي والبلدان المانحة خطته الاقتصادية للبنان، عليه أن يعلم ما هي القيمة الحقيقية لسعر الصرف في السوق السوداء بالتوازي مع السعر الوهمي. كما أنّ المودعين في المصارف اللبنانية لم يعد في مقدورهم الحصول على العملات الاجنبية المجمّدة فيها، الّا بمبالغ محدّدة وبحسب سعر الصرف الوارد في التعميم 151، وفي الوقت عينه، حتى انهم لا يستطيعون الحصول على العملة الوطنية الورقية إلّا بمبالغ محددة، حيث خَلّفت هذه التدابير سوقاً سوداء جديدة بالشيكات بالعملة الوطنية، وحَسمها بمبالغ تُراوح بين 5% و10%.
في هذا المناخ المظلم والتشاؤمي، كيف يُمكن أن نتحدث عن إطلاق العملة الرقمية أو أن نطمح بالانتقال من الاقتصاد التقليدي إلى الاقتصاد الرقمي، باعتبار أنّ أركان الاقتصاد لم تعد موجودة.
علينا الحذر والتفكير بأنّ العملة الرقمية اللبنانية، المُنتظر إطلاقها، تختلف تماماً عن العملات الرقمية المتداولة في بعض دول العالم مثل «بيتكوين»، التي يُمكن تداولها عالمياً وليس محلياً، إذ إنّ الأخيرة وتوابعها تُعتبر بنظر الحكومات مجرّد سلعة لا عملة، باعتبار أنّ العملة الرقمية ترتبط باقتصاد البلد وتشحن قوتها من قوة الاقتصاد. وعليه، لا بد من السؤال: أيّ اقتصاد سيدعم العملة الرقمية في لبنان؟ وهل الوقت الراهن يسمح لنا بالحديث عن إطلاق العملات الرقمية الوهمية؟
وإذا أردنا الخَوض عشوائياً في هذا المجال، فمَن سيتعامل مع العملات الرقمية؟ ومَن سيحملها؟ ومَن سيُسدد بها الاحتياجات والمتطلبات؟ ومن سيدّخر بها؟ يتخوّف البعض من أنّ هذا المشروع المُبطّن يهدف الى استبدال جزء من دولاراتنا في السوق المحلية المجمّدة بالعملة الرقمية، علماً أنّ المودع لا يستطيع الحصول على ودائعه بالعملات الاجنبية غير الموجودة، وحتى بالعملة الوطنية التي يخفُ ضخّها. فهل الهدف من طرح العملة الرقمية في السوق المحلية اليوم في صلب الانهيار، يعني تحويل ما تبقّى لدى المودعين من ودائعهم بالدولارات، وهي كمية كبيرة، إلى العملة الرقمية، علماً أنّ هذه العملة الوهمية لا يجوز أن يثق بها أحد في هذا الجو من انعدام الثقة؟
نحن اليوم لسنا في وضعٍ يسمح لنا باختراع عملات افتراضية (رقمية وغيرها) لأننا نفتقد للثقة في السوق المحلية، ولا نعلم حقيقة الأمور والأهداف المختبئة. فالسوق الاقتصادية الحقيقية في لبنان تمرّ في فترة من أصعب الفترات في تاريخه، وأن اقتصاد البلد يتحوّل من الاقتصاد الحقيقي والمصرفي الذي كان يتميّز به إلى اقتصاد الكاش (Cash Economy) والعملات الورقية Bank Notes، وهو اقتصاد خطر جداً جداً في بلد مِثل لبنان.
نخشى أن يُصبح اقتصاد «الكاش» مقراً للتهريب وغسل الأموال وتمويل الإرهاب، وفتح المجال لترويج المخدّرات، وهو أمر مخيف جداً في بلد صغير مثل لبنان بُني على الفساد وغياب المحاسبة والملاحقة. من هنا يجب القول: إنّ الحديث عن العملات الرقمية في هذا الوقت الصعب جداً يخضع لتجاذبات سلبية أكثر منها إيجابية، ونحن في غِنى عنها اليوم، علماً أنّ العملة الرقمية اللبنانية سيكون استعمالها محلياً حَصراً، والمُرتقَب ألّا يقبل أحد بتداولها والتعامل بها في سوقنا المحلية. فلا العملة الرقمية ولا سواها من الإجراءات ستُشكّل مدخلاً ثابتاً لصَوغ الحلول للأزمة المالية والنقدية، ما لم نتمكّن من استعادة الثقة كركن أساسي وتنفيذ الاصلاحات المَرجوّة منذ سنوات عدة، ورسم خطة اقتصادية واجتماعية متكاملة على المدى القصير والمتوسط والبعيد.
في المحصّلة، إنّ القرارات العشوائية والمنفردة، ومنها العملة الرقمية، يجب ألّا تُبصر النور في هذا الجو من الانهيار.