يشغّل 30 ألف مبرمج ويُدخل إلى الإقتصاد أكثر من مليار دولار… “فريش”
تفويت لبنان فرصة الإستثمار في الإقتصاد الرقمي خلال السنوات الماضية، لا يعني استحالة تعويضها في المستقبل القريب. فالبنية الفوقية لهذه الصناعة متوفرة، والتحتية لا تحتاج إلى استثمارات كبيرة وأماكن فسيحة، وما ينقص توفّر الوعي والإرادة السياسية. وانطلاقاً من أن “العالم يتغير سريعاً”، على حد قول قطب الإعلام روبرت مردوخ. و”القوي لن يهزم الضعيف، بل سوف يهزم السريع البطيء”، فان سرعة اللحاق بركب التكنولوجيا العالمية سترسم مصير الأوطان في القرن الواحد والعشرين.
بمقارنة بسيطة مع ما حققته الإمارات العربية المتحدة على الصعيد التقني وما تنوي تحقيقه، يظهر الفرق بما يمكن أن تصنعه الرؤية الحكيمة والإصرار والمتابعة. في العام 2018 أكد نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أن “نصيب المجتمعات من التطور والارتقاء، أصبح اليوم مرهوناً -أكثر من أي وقت مضى- بقدرتها على مواكبة المتغيرات السريعة والمتلاحقة التي تجتاح العالم، وضمن مختلف التخصصات. ولا سيما مع دخول العالم في حقبة الثورة الصناعية الرابعة، وما أفرزته التكنولوجيا من تطور هائل في مختلف المجالات. وفي الأمس القريب أعلن “الحاكم” على حسابه الرسمي على تويتر عن إطلاق برنامج وطني للمبرمجين بالتعاون مع “غوغل” و”ميكروسوفت” و”أمازون” و”سيسكو” و”IBM” و”HPE” و”لينكدإن” و”شركة Nvidia” و”فيسبوك”… الهدف منه، تدريب واستقطاب 100 ألف مبرمج، وإنشاء ألف شركة رقمية كبرى خلال 5 أعوام، وزيادة الإستثمار الموجه للشركات الناشئة من 1.5 مليار إلى 4 مليارات درهم. وبحسب حاكم إمارة دبي فان “البرنامج الوطني للمبرمجين خطوة جديدة لبناء اقتصادنا الرقمي ضمن خططنا الوطنية الجديدة. فالعالم يتغير، وسرعة التغيير الرقمي تتضاعف، وشكل الاقتصاد سيختلف، وطبيعة المهن ستتبدل. والبقاء سيكون للأكثر استعداداً وسرعة ومواكبة للمتغيرات الجديدة في عالمنا”.
تُدخل مليار دولار
على المقلب الآخر يظهر لبنان الذي يزخر بالطاقات والإمكانيات البشرية، عاجزاً حتى عن توفير أبسط الضروريات للعاملين في هذا المجال، فما بالنا في بقية المتطلبات. مع العلم، أن تخصيص موازنة بسيطة لتطوير قطاعات تكنولوجيا المعلومات، قد تشكل عنصراً مهماً من عناصر الخروج من الأزمة، نظراً لكمية الدولارات الطازجة التي يمكن أن توفرها. فبحسب نائب الرئيس الأول لشؤون البحث والتطوير في شركة Intalio “إنتاليو”، وخبير التحول الرقمي رامز القرا فان “عدد العاملين في مجال صناعة المعلوماتية عموماً والبرمجيات software خصوصاً يبلغ حوالى 30 ألف شخص، يُدخلون ما لا يقل عن المليار دولار سنوياً إلى الإقتصاد. إذ إن معدل عائد الساعة في هذا المجال في المنطقة، في حال كان المبرمج يبيع عمله للمطور، يبلغ نحو 20 دولاراً أميركياً بالحد الأدنى؛ ويرتفع إلى 25 دولاراً في الهند وإلى 50 دولاراً في بولندا. وعليه فان الإستثمار بالبنى التحتية لهذا القطاع الذي لا يتطلب إلا استمرارية الإنترنت وتوفير المازوت للمولدات الخاصة في المرحلة الراهنة -حتى قبل حل أزمة الكهرباء- ممكن أن يرفع عائد الساعة إلى 50 دولاراً ويؤمن ما بين 2 و3 مليارات دولار من المداخيل الصافية. وهذا ما يفوق ما يدخله “عصب” الإقتصاد اللبناني المتمثل بالقطاع السياحي خلال فصل كامل، ويخلق عشرات آلاف فرص العمل في المجال عينه، وفي المجالات المكملة له، كالترجمة والتصميم والتسويق والتوثيق والمحاسبة والعمل المصرفي.
توفير الحد الادنى من المتطلبات
خلافاً لبقية القطاعات الصناعية التي تتطلب استيراد المواد الاولية بالعملة الصعبة، وتوفّر المساحات الكبيرة، وكميات هائلة من الطاقة الكهربائية والإستثمار بوسائل النقل الحديثة وتجهيز الطرقات وغيره… فان صناعة المعلوماتية تكفيها تجهيزات بسيطة لتوليد قيمة مضافة مرتفعة جداً. وهذا ما يمكن الإستدلال عليه، بحسب القرا، “من القيم السوقية لشركات المعلوماتية في المنطقة والعالم. فعلى سبيل المثال لا الحصر بلغت قيمة المنصة الرائدة في التحول الرقمي والمدفوعات الإلكترونية في مصر “فوري” مليار دولار، وبيعت شركة “سوق دوت كوم” في دبي من فترة قريبة بقيمة تتراوح بين 800 و900 مليون دولار. كما بيعت شركة طلبات من 10 سنوات بقيمة 200 مليون دولار. واشترت شركة “أوبر” شركة “كريم” بحوالى المليار دولار. وعليه فان “التجربة تثبت أنه كلما استثمرنا أكثر في المجال، كلما وظفنا أكثر وحققنا عوائد أعلى”.
ليس المطلوب من لبنان ضخ استثمارات هائلة في التكنولوجيا الرقمية وإطلاق المبادرات التعجيزية، إنما تطوير الموجود بالحد الادنى وإيلاء القطاع بعض الإهتمام لتوسيع قاعدته واستقطابه المزيد من الخبرات. ويكفي من وجهة نظر القرا أن “يُنشئ لبنان معاهد تدريب على البرمجة كما فعلت مصر. فالأخيرة أتاحت لعشرات الآلاف من الخريجين في مختلف الإختصاصات الحصول على دورات تدريبية من خلال “المعهد الوطني لتكنولوجيا المعلومات”، والدخول إلى سوق العمل. وبهذه الطريقة بامكان لبنان توليد المزيد من فرص العمل في هذا القطاع وإدخال كميات أكبر من النقد الصعب. يساعده على ذلك المستوى التعليمي العالي لأبنائه، خصوصاً في الإختصاصات العلمية وتكلم 3 لغات عربية فرنسية وانكليزية بطلاقة، وتمتع اللبنانيين بمهارات التسويق والإتصال والتواصل. الأمر الذي يوفر لهم الدخول إلى أسواق متعددة في الخليج العربي وأوروبا وأميركا وإحداث ازدهار كبير ونمو اقتصادي سريع “Booming”.
فرص واعدة
على عكس الكثير من القطاعات، فان الازمة الإقتصادية قد تكون فرصة لتطوير العمل في مجال التكنولوجيا الرقمية عموماً والعمل عن بعد remotely خصوصاً. وبرأي القرا فان “لبنان قد يكون جاذباً لهذا النوع من الإستثمارات في حال تأمين نوع من الإستقرار الإقتصادي والإجتماعي والسياسي، وأسواق المنطقة ما زالت ناشئة ولم تُشبع بعد والمجالات للعمل والتطور كبيرة جداً”. وللدلالة على النقص الكبير في أعداد المبرمجين وقدرة السوق المحلية على استيعاب المزيد، فقد اضطرت الشركات المحلية للدفع لموظفيها بالدولار للمحافظة عليهم نتيجة تدني العرض عن الطلب.
رغم كل المعوقات التي تواجه إنشاء وتطوير الأعمال بدءاً من اجراءات التسجيل وفتح الحسابات المصرفية، مروراً بتدهور خدمات الكهرباء والانترنت، ووصولاً إلى المستقبل المجهول، فان قطاع التكنولوجيا ما زال يؤمن عائدات ضخمة. وكل ما يحتاجه من “صانعي القرار” موقف واضح تجاهه وتأمين أبسط متطلباته وهو كفيل بنقل الإقتصاد إلى “ضفة” العمل والإزدهار.