IMLebanon

الكرامة المتشظّية بعد أربع سنوات على «الربيع»

أذلّت أنظمة الطغيان في المنطقة الشعوب تحت عنوان استعادة «كرامتها». ليس معنى هذا أنّ مفردة الكرامة لاغية، ولا أنّ استعادتها مسألة نافلة، بل العكس تماماً. استعادة الكرامة هي في جوهر الاندفاعة الشعبية الانتفاضية وقت «الربيع العربي». ولأنّها كذلك فهي مقولة ارتكازية، تسمح بالوقوف على جملة ما تشظّى في هذا الربيع، اذ انفصلت الكرامة عن بعضها البعض، وسوّقت كرامة الأفراد كما لو كانت تناقض كرامة الشعوب، وحرّية العقل كما لو أنّها تنفر من غيرة الدين، والكرامة بمعايير المعاش اليومي كما لو أن لا علاقة لها بالكرامة الوطنية والقومية، والكرامة بالمضامين السياسية كما لو أنها نافية لكرامة «أعطنا خبزنا كفاف يومنا».

ومن تشظّي الكرامة، لم تنشأ كرامات سحرية، بل عمّ بلاء السحر الأسود: جلد الذات، اطلاق العنان للنزعات التشاؤمية. ليس التشاؤم النبيل والمثابر والذي فيه مسحة تفانٍ، بل التشاؤم الذي يروّج لأنّ كل من حولك ذئاب وعليك أن تكون بدورك ذئباً، وبأنّ كل من حولك يكره الآخرين وعليك أن تكره الآخرين، وفي الوقت نفسه، وهنا يصير التشاؤم يائساً بل و»يأسيّاً»، أنه عليك أن تكره نفسك لأنّ كل من حولك يكره نفسه. بعد أربع سنوات من الربيع العربي، ثمة منظومة ميديائية ثقافية شاملة تدعوك بأشكال مختلفة ومناسبات شتّى لأن تكره نفسك، ليس لأنها تحثك على التحول الى «انسان جديد» بل تحديداً لأنّ نفسك «الكريهة» هذه، عاجزة عن التحوّل الى صيغة «انسان جديد».

رُهاب الذات ورهابها، رُهاب الآخر وإرهابه، يشتركون بهذا المعنى، بهذا الترويج لتلفيق مريع في علم الأخلاق مفاده، أنّه عليك اذا ما أردت أن تتحمّل المسؤولية بنضج، أن تجلد نفسك، وهويتك الثقافية، والفيزيولوجية كذلك الأمر، وتخاطب ذاتك «آه كم أنت سيئة يا ذات، آه كم أنت متخلّفة، وشريرة». لكن، أليس الشرّ يكمن تحديداً في مثل هذا؟

الكرامة. ثورة الشعوب العربية كانت ثورة الكرامة. لكن النخب لم يعجبها الأمر كثيراً. وجدت أن الكرامة تذكرها بخطابية الأنظمة المخلوعة أو المتأكلة، وهذا صحيح، لكنها وجدت أن الحلّ هو في تعنيف الكرامة، وقد فاتها أنّ هذا لم يحتج الى مراكمة ثقافية لدى الجلاوزة والشبيحة.

في الوقت نفسه، واكثر من اي وقت مضى، لم تعد عملية استرداد الكرامة مجرّد شعار أرادوي نسطّره، فهي تستدعي اوّل ما تستدعي لمّ شمل هذه الذات المتخلّعة: ولمّ شملها يكون بالمواءمة، بين العدول عن تمجيد أنفسنا بلا طائل وبين تعنيف أنفسنا بشكل محموم، والمواءمة بين مكافحة الرُهاب وبين مكافحة الارهاب، فالكرامة في اول الامر ونهايته هي تعبير ضد الخوف. استعادتها تعني عدم الخوف من نفسك وممن يشبهونك، وتهميش الخوف من نظرتك الى السياسة والآخرين والعالم.

من هنا، وأياً كان التدرّج في سلّم الأولويات وتحديد السياسات، فإن هذا المعطى، معطى اعادة الاعتبار لمسألة الكرامة، يفترض ألا يغيب عن البال، سواء عند مناقشة مسائل تخص الامن والامان، كمكافحة الارهاب، او مسائل تخص معالجة ملف اللاجئين السوريين.

واذا كنا نرى على الشاشات كيف ينتفض الباريسيون من اجل كرامتهم، فحري بكل واحد منا، اعادة التفكير ملياً في اهمية هذا المحرّك الفعّال لسياسات الجموع: الكرامة. ان يكون الممانعون قد ابتذلوها كشعار فهذه مسألة أخرى.