هناك كلام لن يعجب من يعتقدون أننا حلفاء لهم في القضايا الكبرى. قد يغيظهم ما نقول. ولكن لا بأس، لأن الأمر لامس حدود الانفجار الذي يتجاوز حدود البقاء. والبقاء، هنا، ليس أمراً طوعياً على شكل الحياة الذليلة، بل هو العبودية بذاتها. هو أن تكون أسير قواعد لعبة، ممنوعاً عليك الاقتراب منها أو مسّها بحجة الاستقرار.
في حالة لبنان اليوم ليس هناك تضارب في الأولويات، بل هناك تزاحم في الاستحقاقات. لكن أي عاقل يمكنه فهم الترابط غير المسبوق بين كل الأمور العالقة. وإذا كانت تسوية اتفاق الطائف لم تخلق الفرصة لاستقرار النظام سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، فهذا بسبب اللبنانيين أنفسهم، الذين ارتضوا العيش من دون تطبيق القوانين. وهذا بسبب الذين ذهبوا بعيداً في خياراتهم العقائدية، متجاوزين قواسم، هي أساس أي حياة لأي شعب.
ما لم يتغير في أحوال اللبنانيين سببه ضعفهم، وعجزهم عن مواجهة الفساد في قلب بيوتهم، وسببه انهيار كل أشكال العقود الاجتماعية البديهية التي تعفي الناس من نتائج التعصب الطائفي والمذهبي والعقائدي.
وببساطة يجب أن تكون الأمور واضحة بلا أي لبس.
المعركة التي يخوضها اليوم ميشال عون لا تعنيه وحده، ولو بقي وحده في الميدان.
هذه المعركة لا تعني المسيحيين وحدهم، حتى لو لم يخرج معه إلى الشارع أي مسلم. وبات من الضروري العودة قليلاً إلى الخلف.
منذ إبعاد عون عن لبنان، وتولي سوريا إدارة الملف اللبناني بموافقة وشراكة أميركية ــــ سعودية، كان هناك قرار بإضعاف القوة السياسية للمسيحيين. والحجة، أنهم لم يعلنوا خسارتهم للحرب الأهلية، وأنهم لا يزالون يرتبطون بقوى أجنبية معادية للبنان وسوريا.
من وافق على هذه الوصفة، هم أساساً، القوى التي يفترض أنها جاءت لتعبّر عن التغيير الكبير في التمثيل السياسي للمسلمين في الحكم. من الرئيس نبيه بري بوصفه ممثل الشيعية الجديدة، إلى الراحل رفيق الحريري بوصفه ممثل السنية الجديدة، إلى الزعيم المؤبد وليد جنبلاط، وريث الدرزية المحدثة. وكان لهؤلاء شركاء من المسيحيين الذين انضموا إلى الحكم في ذلك الزمان، ومن الصنف الذي يميز بين المال والأعمال وبين السياسة والتمثيل. وهنا تبرز قوة نافذة، في عالم المال والأعمال، لا تزال إلى اليوم شريكة الائتلاف الإسلامي الحاكم.
منذ ذلك التاريخ، لا يسمح للمسيحيين بما يسمح للمسلمين. لا يمكنهم اختيار رئيس للجمهورية، ولا تعيين مسؤول في منصب أساسي. وأي تبدل يحصل على تمثيلهم للمواقع الوزارية والنيابية، ممنوع أن ينعكس تبدلاً في قواعد اللعبة التي تحكم البلاد.
ببساطة، نحن أمام خيار من اثنين: إما أن نقبل بتعميم هذه القاعدة، فيترك للمسيحيين أن يختاروا من يفضلون وفق موازين القوى الحاكمة بينهم، وإما أن يحصل انقلاب شامل يطيح قواعد اللعبة في لبنان. لأنه، ببساطة، فإن الغالبية الساحقة من المسلمين غير ممثلة فعلياً في الدولة.
عند السنّة حالة من الفقر البائس والضمور، لأن الحريرية لم تُبقِ على شيء لهم. أوهمتهم بأن الخلاص في رفع شعار «ظلم أهل السنة». لكن، ليس لهم حق الحلم بأن تصبح عكار منطقة طبيعية، أو يسدل الستار على أحياء الفقر في طرابلس وصيدا وبيروت والبقاع، وأن يفسح في المجال أمام أبناء بيروت للحياة بصورة طبيعية داخل مدينتهم، وعدم التحول إلى لاجئين بائسين في الضواحي القريبة.
عند الشيعة، تمثل المقاومة التعويض المباشر، المعنوي والمادي. يشكل حزب الله، اليوم، القوة التشغيلية لعدة مئات من ألوف الشيعة في لبنان، وتوفر المقاومة لهم كرامة وصوتاً مرتفعاً في وجه كل طاغية. لكنها لا توصل المياه إلى منازلهم، ولا تؤمن مدرسة رسمية طبيعية، ولا تتيح لهم جامعة لائقة أو مصرفاً محمياً أو شركة تجارية عادية. ومن حصد من الشيعة المكاسب والوظائف، لا يمثل إلا النسبة الضئيلة والضئيلة جداً. وهؤلاء محكومون بقواعد الانتماء إلى الجهة النافذة في الحكم، أي إلى ما يراه الرئيس نبيه بري مناسباً لهم. وهكذا لا إدارات ولا مصالح عامة ولا بلديات قادرة على تقديم نموذج مختلف. ولو قدر لمن يرغب، أن يتخيل، غياب المقاومة، لكنا جميعاً، نسير في شوارع مليئة بالفقر والعنف والتطرف.
عند الدروز، لم يُبق آل جنبلاط للناس ما يعتاشون منه. كل استغلال تم للمال العام، باسم وظائف من هنا، أو وزارات من هناك، أو أموال المهجرين، لم ترفع شأن أحد، ولم تسمح بترقٍّ اجتماعي ومالي لغير بيت الزعيم وزبانيته، ودفعتهم سياسات الحاكم، وحتى بقية الشركاء، إلى الجدار حيث ولدت عندهم أصولية فكرية، هدفها التعويض عن أفكار أخرى أطاحتها مافيا الزعيم الوطني. وليس بمقدور من يعيش منهم في القرى سوى النوم باكراً، والخروج صباحاً نحو حياة تقوم على التبادل الذي كان يحكم المجتمعات الريفية قبل مئة عام. فلا اقتصاد ولا سياحة ولا نمو ولا مشاركة بغير ما يراه البيك. ومن يفكر في التمرد، فما عليه سوى الهجرة إلى حيث يلحق به البيك طالباً منه ليس إعالة أهله فقط، بل مد بيت مال الزعيم بما يحفظ حقوق الطائفة.
حتى المسيحيون الذين ارتضوا الصمت خلال 15 سنة من الحكم تحت وصاية التفاهم السوري ــــ الأميركي ــــ السعودي، لم يحصدوا سوى البقاء. وعندما انقلبت الأدوار، عاد قسم منهم، ليعيش، طوعاً أو غصباً، في ظل أحزاب وقوى لم تأت لهم إلا بالهزائم والتعب. وصار هذا القسم يعتاش على فتات دول الوصاية الخارجية، أو صفقات مع الائتلاف الإسلامي الحاكم. وعندما برز ميشال عون، كعنوان تغيير في التمثيل الاجتماعي لغالبية مسيحية، أُريد له أن يختار بين استمرار نتائج سياسة الأبعاد، أو الانتظام في صف النظام الذي لم يعد يحفظ لأحد كرامته.
ها نحن اليوم أمام الجدار مرة أخرى. لا نحتاج إلى من يقول لنا إن الصيغة الطائفية للحكم عندنا فشلت مرتين: مرة مع ميثاق عام 1943، حيث الحكم بأغلبية مسيحية، ومرة مع اتفاق الطائف، حيث الحكم بأغلبية إسلامية. ولسنا هنا، لنتوهم أننا على أبواب ثورة لنعيش في ظل حكم بأغلبية مدنية. لكننا، نجد أنفسنا مضطرين إلى إعلان الموقف المناسب من استحقاق سيصيب كل واحد فينا.
عند احتدام الصراعات الكبرى، والدخول في معارك وجودية، تصبح الكرامة الإنسانية عنواناً ملازماً لأي تحرك أو احتجاج أو مطالب. وفي حالة ميشال عون، تمثل الكرامة الوجه المطابق للمقاومة… لكونها تمثل مواجهة الظلم بكل أشكاله.
نحن، نقف حكماً، إلى جانب ميشال عون!