لم تخرج الجلسة الثانية للحوار بين أهل السلطة بنتائج مختلفة عن سابقتها. فالبند الأول المتصل بحل أزمة الرئاسة لا يزال يصطدم بموقف التيار الوطني الحر المدعوم من «حزب الله». يكمن وراء التعنت الهدف الأصلي للتيار والحزب في تعديل اتفاق الطائف عبر مؤتمر تأسيسي يعيد توزيع السلطة بين الطوائف، وهو أمر لا يبدو سهلاً الوصول اليه. إن الإصرار على هذا المؤتمر هو فتح الباب مجدداً لنزاعات أهلية غير سلمية كما عرف لبنان مثيلاتها في الأعوام 1958 و1975. لذا من المتوقع تواصل الاجتماعات الحوارية تحت بند الحد من التشنج والتوافق على عدم انزلاق البلد الى أخطار أكبر، خصوصاً ان هذا الحوار ينعقد وسط حراك شعبي، يراهن قسم من المتحاورين على الإفادة منه في طرح صيغه «الراديكالية» المتصلة بتغيير النظام وما شابه.
وفي العودة الى الحراك المتواصل بأشكاله المتعددة، لا بد من تسجيل وتأكيد ما ينطوي عليه من إيجابيات تمثلت، حتى الآن، في هز موقع الطبقة السياسية – الطائفية الحاكمة، من دون ان يعني ذلك قرب انهيارها كما يدعو او يتمنى أهل الحراك ومعهم مجموع الشعب اللبناني. كما ان الحراك بدا بمثابة انتفاضة سياسية – اجتماعية تفيض بالتأكيد عن القائمين بها او الداعين اليها من كل الاتجاهات. ان تواصل الحراك، خصوصاً عبر التظاهرتين الكبيرتين، قد سدد صفعة لأهل الحكم لم يعتادوا عليها من قبل. في سياق المحصلة المتحققة حتى الآن، لا يمكن الاستهانة باضطرار السلطة الى فتح ملف النفايات والوصول به الى نتائج محددة، وهو نجاح يجب تسجيله في خانة الحراك والضغوط التي مارستها القوى على الأرض. قياساً على حراك اجتماعي كان كبيراً جداً ويفوق حجم الحراك الراهن في تسعينات القرن الماضي، أمكن للسلطة الالتفاف على المطالب ورفض الاستجابة لأي منها، بل استخدمت العنف العاري وسيلة لإنهاء الحراك آنذاك.
ان التشديد على هذه الإيجابيات لا يمنع من قراءة نقدية لما جرى حتى اليوم، وللأخطار المحيقة بالحراك وانزلاقاته نحو العدمية. إحدى ميزات هذا الحراك انه لا يستند الى أطر نقابية على غرار الحراك في عقود سابقة، وهي مسألة تؤدي الى فوضى المطالب والعجز عن تعيين الأولويات. ليس غريباً على حراك انطلق في شكل عفوي واخترقته تنظيمات شبابية، قسم كبير منها يفتقد الى تجارب نضالية سابقة، ان تسوده فوضى المطالب والشعارات. لكن الفترة التي مضت عليه، كان يمكن لها ان تفرز في المطالب والشعارات ما هو بمقدورها ان تحقق فيه إنجازات، وبين شعارات لا يجب الإصرار عليها لاستحالة تحققها، خصوصاً ان الإصرار عليها مصيره الفشل والإحباط، من قبيل إسقاط النظام الطائفي او استقالة الحكومة او استقالة أي وزير.
لم تحسن قوى الحراك الإفادة من استجابة أهل الحكم لمسألة حل النفايات، رغم ما يمكن ان يشوبها من ثغرات. أبرز الردود اتسمت بالعدمية وبرفض الحلول المقترحة والتي أتت استجابة للحراك. وابتعد معظم قيادات التنظيمات عن استحضار ملفات المطالب الحياتية الكبيرة من قبيل الكهرباء والماء والطرقات والأملاك البحرية … وغيرها الكثير، وهي قضايا ستهز الطبقة الحاكمة من خلال كشف الفضائح الكامنة فيها، على غرار ما جرى في قضية النفايات. لن ينجو اي زعيم طائفي – سياسي من فضائح هذه الملفات، ومن دون استثناء، فالكل متورط بالنهب والفساد. والأخطر من ذلك، تحول الحراك لأن يكون ممسوكاً من أطراف النظام نفسه. فالقوى العاملة تحت اسم «بدنا نحاسب»، على سبيل المثال، والمكونة من بقايا يسار وناصريين وقوميين منتهية صلاحيتهم، تعمل تحت عباءة فريق الثامن من آذار، وتركز شعاراتها على فريق الرابع عشر من آذار في وصفه وحده المسؤول عن الفساد في البلد، فيما الحقيقة ان كلا الآذاريين غاطسان في هذا الفساد من دون تمييز بين واحد وآخر.
اما مطلب الإصرار على استقالة وزير البيئة، إضافة الى انه مطلب عبثي غير قابل للتحقق، فإن رافعيه قد لا يدركون ان هذه الاستقالة لو تمت، لكانت سينظر اليها في وصفها هزيمة للطائفة السنّية، حيث من الممنوع ان تهزم طائفة من قبل طائفة اخرى. لعل استعادة اعتصام العام 2006 والسعي الى احتلال السرايا وإسقاط حكومة فؤاد السنيورة خير تذكير في هذا المجال.
من الأخطار التي يجب ان لا يستهان بها، تحول الحراك الى شغب وفوضى تنعكس على حياة المواطن العادي، فتجعله ينقلب على المتظاهرين من التأييد الى مطالبة السلطة باستخدام العنف من أجل تثبيت الأمن، ولعل في تجربة الشباب المصريين عام 2011 ما يكفي من الدروس حيث انقلب الجمهور عليهم بعد ان بات حراكهم عبثياً وعدمياً وفوضوياً.
لم يفت الأوان على الاستدراكات وتصحيح البوصلة. فالحراك متواصل ولن يتوقف بالنظر الى القضايا التي يمثلها. لكن الخطر يهدد الحراك اذا ما انحرف نحو العدمية، التي تعتبر أقصر الطرق للإحباط واليأس.