إتهموها بالعمالة، هدّدوا عائلتها، وصفوها بتعابير مهينة
«المُعاقة وعقبال الـBaby»… «أم المُعاقة بس تغرّد»… «وين رابطينك اليوم»… «غبيّة وبتضلّك غبية». عذراً على قساوة الكلمات وما سَيَلي من عبارات، لأن ثمة المزيد: «رقّاصة الرينغ»… «صار للشرشوحة مرجوحة ولأبو بريص قبقاب»… «حقيرة»… و»ديما تنبح». هذه ليست سوى عيّنة عما قد يقرأه متصفّح مواقع التواصل الاجتماعي. لكن أغلب الظن أنكم عرفتم، من الهاشتاغ الأخير، من المقصود: الإعلامية ديما صادق. وأغلب الظن أيضاً أنكم، اتفّقتم معها في السياسة أم اختلفتم، لن تجدوا كثير عناء في توصيف تلك العبارات. تعريفاً، هي تنمّر خالص. ومن هنا ننطلق.
هل هي ضريبة على كل امرأة تجرّأت على الخروج عن بيئتها في مجتمع ذكوري – بطريركي – طائفي أن تسدّدها؟ جلّ ما نعرفه يشي بذلك. فذلك الخروج هو بذاته مدخل لتبرير أسباب التنمّر في مجتمع لا يتقن، في حالات كثيرة، طريقة أخرى لتوجيه الانتقاد. لكن لنَدَع التجريح، بمفهومه العام، جانباً للحظة لأن هناك ما هو أسوأ. فموضوع الشرف، حين ترتبط المسألة بالمرأة، هو الآخر خاصرة رخوة أسهل ما يمكن النفاذ منها لتشويه صورتها أمام شريك حياتها، أهلها وأولادها على السواء. سمّها تحريضاً معطوفاً على تنمّر، وذلك لمجرّد الاختلاف في الرأي. فإن لم تكن تساؤلات على شاكلة «ما عندها رجّال يلجمها، أو أب أو أخ يؤدّبها؟»، تحريضاً، ماذا عساها تكون.
تمرّدت… فتنمّروا
نعود إلى ديما. نزورها في منزلها لنطرح عليها بعض الأسئلة، وهي التي تمرّست بلعب دور المحاور وأتقنته. هي الفتاة الجنوبية التي نشأت في بيروت في كنف عائلة شيعية تقليدية لا تختلف أفكارها ومعتقداتها عن تلك السائدة في البيئة المحيطة. في إحدى المراحل، شاءت الظروف أن يُرسل أهل ديما ابنتهم إلى مدرسة الليسيه في الأشرفية، وكان عمرها يناهز العشر سنوات. حينها كانت البلاد مقسومة إلى بيئتين متناقضتين تماماً. بكلام أدقّ، كانت حقبة بيروت الشرقية وبيروت الغربية لم تُطوَ بعد. هناك بالذات راحت تتعرف إلى أفكار لا تشبه ما درجت على سماعه في البيت والمحيط. وتقول: «بدأت أكتشف اللبناني الآخر في بلد لم يعتد فيه الفرد على احترام الرأي المخالف، ما خلق لدي الكثير من التساؤلات كما الحس النقدي. عندها أدركت أنّ مسلّمات بيئتي ليست جميعها صحيحة، تماماً كحال مسلّمات بيئة مدرستي والمنطقة التي تقع فيها».
تُخبرنا ديما أنها وُلدت متمرّدة. وقد كانت ملامح التمرّد ظاهرة في حياتها اليومية. كيف لا وهي الفتاة التي لا تخضع بسهولة. تفاعلت شخصيتها مع طبيعة الحياة التي فُرضت عليها، ما غذّى في داخلها تلك النزعة المتمرّدة. وتضيف: «تمرّدت أولاً على القيود المفروضة عليّ كفتاة ومراهقة ترعرعت في بيئة محافظة، وحاولت أن أكسر الـ»لا» الاجتماعية المتضخّمة الناتجة عن سلطة أبوية ذكورية، ما أدّى إلى تضخّم منسوب التمرّد في داخلي». ديما تمرّدت فغرّدت خارج السرب. ولأن التمرّد هو أقصر السبل لتحوّل المتمرّد عرضة للاستهداف، تعرّضت لحملة شعواء وسيل وافر من الإساءات. حملة تعرف تماماً كيف ومتى بدأت، لكنها ليست أكيدة متى وكيف تنتهي.
نسألها إن كانت تذكر المرة الأولى التي تعرّضت فيها للتنمّر أو التهديد؟ تطلق العنان لنظرها في أرجاء الغرفة، كمن يبحث عن ذكريات أريد للزمن طيّها بإحكام، ثم تجيب: «نعم، أذكرها تماماً، وكم صُدمت حينها. لم أتوقع أن أتحوّل بين ليلة وضحاها من فتاة عادية محبوبة إلى شخص مكروه يتلذّذ الكثيرون في الإساءة إليه. ذلك رغم أني لم أكن في حينه قد تمرّدت بعد لا على السلطة ولا على البيئة الشيعية». حصل ذلك في العام 2012 في بدايات الثورة السورية المندلعة في وجه النظام هناك. وتتابع ديما أنها لم تتوجّه حينها مباشرة للرئيس الأسد وإنما للوزير ميشال سماحة بعد حادثة إدخاله مواد متفجّرة في صندوق سيارته من سوريا، واصفة إياه بـ»المجرم بطلب من سفّاح اسمه بشار». هي عبارات قليلة كانت كافية لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي في وجهها. وتردف متسائلة: «هل من العدل أن أُتّهم بالعمالة والدعارة ويُهان شرفي وتُمارَس عليّ وعلى كل أفراد عائلتي شتى أنواع التهديدات، وأُرمى بأقذع الشتائم والألفاظ النابية لمجرّد التوجّه بالنقد لمحور الممانعة؟».
مواقف صعبة وثقة لا تتزعزع
ثم كرّت السبحة، حيث لم تسلم ديما من التنمّر على أشكاله. إضافة إلى نعتها بـ»بنت ليل»، اتُّهمت بتلقّي الرشاوى من دول الخليج والعمل لصالح اسرائيل. بين هذه وتلك، تمّ استغلال مرض والدتها وهُددت بهدر دمها. سُرق هاتفها ذات يوم من أيام ثورة تشرين. استهزأوا بابنتها التي تعاني من متلازمة جوبيرت. لا بل أكثر من ذلك. وُجهّت مؤخراً سهام التنمّر افتراضياً إلى جنين تحمله في أحشائها لم يبصر النور بعد. أيّ من تلك المواقف كان الأصعب؟ نطرح السؤال، فتردّ وابتسامتها المعهودة- وما أدراكم ما خلفها- تعلو وجهها: «إذا كانت المعادلة صمتي مقابل عدم التعرّض لي كامرأة، فهي غير قائمة لا بل غير مطروحة أساساً. أعلم جيّداً من أنا وليقولوا ما يريدون. أما حين يتعلق الأمر بأولادي، وهم لا ذنب لهم بما يحصل ومن حقهم أن يعيشوا طفولتهم، عندها تتعقّد المعادلة ويصبح البحث عن تدابير لحمايتهم أمراً لا بد منه».
ننتقل إلى موضوع آخر، لا مبالغة في القول أنه من أكثر ما ترك أثراً في أعماق ديما. والدتها التي فارقت الحياة وفي قلبها ألف حرقة ولوعة بسبب ما تتعرّض له ابنتها. ماذا عن ذلك الألم الدفين؟ تبتسم مجدداً وتهمس: «السؤال يلي بعدو من فضلك». نتفهّمها جيّداً. فبعض المواقف أقسى من أن تُعلَّب في توصيف من أحرف وكلمات.
يُجمع المتعاطفون مع ديما كما المعارضون لها على شخصيتها المثيرة للجدل. الجالس أمامها يلمح ومضات التحدي في عينيها. تحاورها فتجيبك بصلابة ومن دون مواربة. تحاول وضع الإصبع على جرحها، فتبعد يدك بلطف. أبواب موصدة خلف أبواب موصدة. لم تشأ ديما أن تذكر المرات التي تلجأ فيها إلى البكاء. للقوة تعبيرات كثيرة. لكن رغم الدموع، رغبتها بالثبات والتحدي تزداد يوماً بعد يوم: «ليس مكابرة ولا مبالغة ولا حتى ادّعاء بطولة. إنما لكل ما يحدث من حولي «صفر أثر» على ثقتي بنفسي. هؤلاء أشخاص فاقدون للحجة السياسية في مواقفهم. فليقولوا ما يشاؤون… هذا دليل قاطع على إفلاسهم».
تحصين المنزل من تأثيرات المجتمع
«من المستحيل ألا نجلب ما نتعرّض له في المجتمع إلى داخل المنزل، حتى لو سعينا لِكَبتِه في داخلنا». هكذا باختصار أجابت ديما عن مدى انعكاس التحديات الخارجية التي تعايشها على الجو العائلي. إلا أنها تسعى جاهدة لإبقاء ابنتيها بعيدتين عما يدور في الخارج، تمهيداً لهما لتكوين أفكارهما الخاصة بعيداً عن أي تأثيرات في ما بعد. من يتعرّف إليها عن قرب يلاحظ فيها، عكس الشائع، تلك المرأة المسالمة الهادئة. أهو المناخ السياسي السائد وحده ما يظهرها بالمظهر الذي عهدناه أمام الكاميرا؟ هل الدفاع عن الحريات ومواجهة الظلم يحتّمان عليها ذلك؟
هي تعتبر نفسها محظوظة. فالداعمان الأساسيان في حياتها هما زوجها وعائلتها. والاختلاف في الآراء السياسية ضمن المحيط الضيّق لا يفسد للودّ قضية. إذ تعزو ذلك إلى رابط الحب الذي يجمع ويطغى على سواه. ديما تختلي كثيراً بذاتها ولا تتردّد في إعادة حساباتها حيث يجب: «أسعى لتقييم أين أخطأت، لأني أخطئ، وأين تسرّعت، لأني أتسرّع. أحاسب نفسي دوماً، فأنا من الذين يعاقبون ذاتهم وهذا ما لا أظهره على وسائل التواصل الاجتماعي». أكثر من ذلك. فهي بحاجة لمن يستمع إليها أحياناً. الدعم النفسي أكثر من ضرورة. فنحن مخلوقات هشّة في مكان ما، تعرّضنا للتنمّر أم لم نتعرّض.
بين التراجع والاستمرار… ما الخيار؟
ديما، كسائر اللبنانيين، لم تختر المواجهة ترفاً، إذ هي فُرضت عليها، كما تقول: «نحن في صميم المواجهة وخُلقنا في خضمّها. الدفاع عن المظلوم ومحاربة الظالم ليس خياراً إنما واقع مفروض علينا أن نعيشه تلقائياً». وتُكمل لتؤكد عدم تراجعها عن مواقفها مهما كلّف الأمر. فالخوف من الموت لا يعني السكوت عن الظلم.
التنمر، بدوره، لن يزول إن تبدّلت مواقفها السياسية (رغم تأكيدها استحالة التراجع عنها). هذه قناعتها كونه – أي التنمّر- أحد أوجه الطبيعة البشرية. فما بالكم إذا كانت هناك علامات غير صحيّة تعتري المجتمع، لا بل تجعله يُشجّع عليه؟ «للأسف ظروف مجتمعنا أدّت به لأن يتفلّت من الضوابط الأخلاقية والعقلانية. فهو نتيجة طبيعية للعنف المستمر الذي ما فتئ يلاحقنا منذ العام 1975»، برأيها. في أحسن الأحوال، أقصى ما يمكن لمجتمع سليم هو لجم الأحقاد والإساءات المعنوية واللفظية والجسدية، دون أن يقضي عليها. فأين نحن من ذلك؟
إذ يشارف الحديث على نهايته، نسألها إن كانت ترى في جمالها الأنثوي نقمة. تبتسم من جديد وتقول: «لست جميلة لكن، في مطلق الأحوال، الجمال عنصر آخر يضاف إلى العوامل المساهمة في ازدياد منسوب التنمّر». جمال وخروج على التقاليد، فَلَكم أن تتخيّلوا.
ديما، التي اختبرت بشاعة التنمّر، اتُّهمت في مناسبتين باستخدام التنمّر ضد آخرين. هل هو أسلوب تعتمده أحياناً للردّ على مهاجميها؟: «بالمبدأ، هذا الأمر مرفوض أخلاقياً وعقلانياً بالنسبة لي لأني أدرك أبعاده. اتُّهمت أحياناً بما وُصف بالتنمّر رغم أني لم أعتبره كذلك. لكن في حال حصوله، فقد كان ذلك نتيجة طبيعية للضغط المتواصل الذي يُخرج الإنسان عن طوره ومبادئه وقناعاته. حاسبت نفسي كثيراً وقتها رغم أني كنت على يقين أن نية التنمّر لم تكن موجودة».
طيلة اللقاء، حرصت ديما القوية على التعالي على مشاعر الألم. لكنها أبت أن تختم كلامها من دون التوجّه للمتنمّرين بالقول: «أنتم ضحية عنف اجتماعي هائل أفقدكم مختلف ضوابط الوعي الأخلاقي والمقاييس. لذا أنا أتعامل معكم كضحايا لا كجلادين». أما الأكثر دلالة، فهو نصيحة أخيرة وجّهتها لمن يمرّ بنفس التجربة، على صعوبتها: «حين نكون إزاء قضية ظالم ومظلوم، حق وباطل، أطفال وإنسانية… بتستاهل نتحمّل».