يُعيد الفراغ المتمادي في سدة الرئاسة اللبنانية التذكير مجدداً بحاجة لبنان الدائمة الى وصاية خارجية في استحقاقاته الأساسية. المفارقة أن تضاؤل اهتمام الخارج بالملف اللبناني جعل المشهد الداخلي أكثر تعقيداً والتباساً، وساهم في تعويم الخلافات وإعادة رسم اصطفافات جديدة، بدلاً من الدفع باتجاه التقارب بين الفرقاء وصولاً إلى ملء الشغور في المقعد الرئاسي الأول. وبالعموم، فقد فقدَ الملف اللبناني بعض الضوابط الممسكة بانتظامه السياسي الداخلي، ما أدى إلى إنقلاب الصورة والخروج عن الإيقاع المعهود، على نحو ما يحدثه تلامذة المدرسة من فوضى في لحظة انعتاق من رقابة الناظر.
في ظل المشهد الراهن، بات من الصعب أن يكون الرئيس المقبل أحداً غير المرشحَين ميشال عون وسليمان فرنجية. ومع أن مبادرة سمير جعجع إلى ترشيح ميشال عون قد أفضت إلى خلق دينامية جديدة جعلت الأخير أكثر قرباً من سدة الرئاسة، لكنها في الوقت عينه أعادت خلط الأوراق، فباعدت بين الحلفاء وقربت بين المتخاصمين وكرست اصطفافات «رئاسية» جديدة بين فريقين، أحدهما يدعم فرنجية على خلفية العودة إلى السلطة بصيغتها القديمة، وآخر يدعم الجنرال انطلاقاً من خلفيات متباينة. غير أن المبادرة القواتية لا يمكن النظر إليها من زاوية واحدة، لأنها تنطوي على ثلاثة مستويات، قد لا تكون منفصلة عن بعضها، إلا أن لكل منها سياقه المختلف عن الآخر.
المستوى الأول انتخابي يرتبط بالاستحقاق الرئاسي نفسه، حيث توفر هذه المبادرة للجنرال أصواتاً إضافية في حال انعقاد الجلسة الانتخابية، كما توفر له ميثاقية مسيحية تعزز موقعيته كمرشح وتحول دون القدرة على انتخاب غيره، ما يجعل المنافسة بين الجنرال وفرنجية موزعة بين ميثاقيتين، الأولى ممثلة بأكثرية مسيحية مؤيدة للجنرال والثانية تنطوي على أكثرية سنية مؤيدة لفرنجية.
المستوى الثاني مسيحي يتعلق بالتقارب الثنائي بين «التيار الوطني الحر» و «القوات» وترتيب الوضع الداخلي للمسيحيين. تداعيات هذا التقارب تراوح بين كونه يمهد لترتيب البيت اللبناني عموماً على قاعدة إيجاد مناخات ملائمة للمصالحة الوطنية والاستقرار، وبين الذهاب نحو خلق اصطفاف جديد يطيح باصطفافات الفريقين الآذاريين. في كلتا الحالتين، من المرجح أن يخرج الدور المسيحي من حالة كونه موزعاً بين فريق معارض وآخر ملحق بموالاة، إلى كونه قوة وازنة تعيد إنتاج ثنائية قطبية بين المسلمين والمسيحيين.
أما المستوى الثالث فيتصل بمستقبل العلاقات بين «حزب الله» و «القوات». جدية المسعى القواتي للتقارب مع «حزب الله» لا تمنع من القول بصعوبة فتح مسار تواصلي بين الجانبين، من دون أن يعني ذلك بالضرورة استحالة الخروج من حالة القطيعة الدائمة بينهما. قضية التقارب هذه تستدعي من القوات الذهاب أبعد من الإعلان عن العداء لإسرائيل إلى ما يثبت فعلية عدائه لها. يبدو أن جعجع الذي اختار القفز من الباخرة الإقليمية الخاسرة، وتغليب خياراته المحلية على رهاناته الإقليمية، وبالتالي الابتعاد عن السعودية خطوات على أمل الاقتراب من «حزب الله» خطوة، يراهن جدياً على تقاربه مع الجنرال ليصبح صديقاً لحليف الحليف، فيما سيراجع حزب المقاومة حساباته أكثر من مرة قبل أن يقرّر مدّ شعرة معاوية لحزب «القوات»، على قاعدة «أن يشرب العلّيق من جيرة الورد».
المحصلة هي أن الاستحقاق الرئاسي مرشح للمزيد من الفراغ، كما المشهد اللبناني مشرّع نحو المزيد من الواقعية والسوريالية، إلى أن يشاء الله أمراً كان مفعولاً.