سندًا الى العلم السياسي تعدّدت المصطلحات التي تُحدِّد العمل الديبلوماسي، ومن أبرز علماء السياسة العالم Harold Nicolson الذي عرّفها على الشكل الآتي: «الديبلوماسية هي إدارة العلاقات الدولية عن طريق المفاوضات والأسلوب الذي يستخدمه السفراء أو المبعوثون لإدارة وتسوية هذه العلاقة، وهي وظيفة الدبلوماسي وفنّه». كما يُعرّفها العالم Ernest Satow بأنها «تطبيق الحيلة والذكاء في إدارة ملف معيّن بين الحكومات أو الدول أو الأفراد المتخاصمين». كما يذكر العالم Charles Calvo تعريفًا للديبلوماسيّة بأنها «علم العلاقات القائمة بين مختلف الدول والشعوب، كما تنشأ عن مصالحها المتبادلة، وعن مبادىء القانون الدولي ونصوص المعاهدات والإتفاقيات التي تنشأ، وهي ضرورية لقيادة الشؤون العامة ومتابعة المفاوضات». وفق وجهة نظرنا كباحثين وناشطين في الشأن العام وتوّاقين إلى لعب دور سياسي معيّن في مرحلة مستقبلية وعلى قاعدة مقدمة الدستور الفقرة /د/ والتي تنص على أنّ «الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يُمارسها عبر المؤسسات الدستورية»، إعتبر أنّ معضلة الأزمة اللبنانية وبكل جوانبها تتطّلب جُهدًا ديبلوماسيًا لمقاربة المشكلات وإيجاد المخارج لها لسبب أنّ العمل الديبلوماسي له مفهوم متعدِّد الجوانب والإستخدامات، وإنه مرتبط بالأهداف، ومشكلة لبنان لم تَعُدْ تقتصر على عقد إجتماعات جانبيّة بين بعض المكوّنات السياسية، بل من الواجب أن تشمل الإتصالات الدول الكُبرى أو ما هو متعارف عليه «الدول العظمى» والمنظمات الدولية والإقليمية وغيرها من المؤسسات والوحدات السياسية في المجتمع الدولي. وبالتالي، فإنّ الجهد الديبلوماسي أصبح عملية سياسية مستمرّة من الواجب توظيفه عملياً وعلمياً في تنفيذ سياسة مخرج للأزمة اللبنانية وفي إدارة المفاوضات في شكل علمي ورصين ومُحدّد التواريخ والأهداف.
زرتُ منذ فترة قصيرة أحد الدكاترة في علم السياسة مستطلعًا آراءه في الأزمة اللبنانية وماهيتها ورواسبها وطرق معالجتها، وقبل أن يستفيض في الإجابة توّجه إليّ بالآتي: «الديبلوماسية هي أن تفكِّر قبل أن تنطق بأي كلمة». واعتبر أن حل الأزمة اللبنانية يجب أن يمُّر أولاً بالقنوات الديبلوماسية وعليكم إجراء المفاوضات بين المتخاصمين، حيث التفاوض في هذا المعنى يشتمل على صوغ سياسات مبنيّة على القوانين الدولية والقوانين اللبنانية المرعية الإجراء. ثانيًا، إنّ فن التفاوض هو الممارسة الرسمية التي من الواجب أن يسلكها الأشخاص المكلّفون التفاوض ومن المفترض أن يكونوا مُلمّين بكل التفاصيل المتعلقّة بالمواضيع العالقة، لأنّ العمل الديبلوماسي هو الحرفية في إدارة الحوار يُنتج تفاهمًا مبنيًا على الأسُس القانونية المعمول بها رسميّا سواء أكانت دوليًا أو داخليًا. إنّ الشخص المحاور يجب أن يتمتّع بمزايا ديبلوماسية، أي أن يُجيد التعاطي والتعامل مع ما حوله وما يملك من معطيات، وأن يمتلك أسلوب الحوار الراقي والذكي بحيث يستطيع من خلاله حلّ أي خلاف مهما كان معقدا، وعادة ما يكون شخص محبوب ومحترم لدى الجميع وينطبق عليه توصيف العالم Nicolson «هو شخص يتّصف بالصدقية والدّقة والهدوء والمزاح والصبر والتواضع والإخلاص». إنّ المرجع المُكلف إدارة المفاوضات يجب أن يكون شخصا ديبلوماسيا صاحب دور مهم في توطيد العلاقة بين المتحاورين، وعليه أن يكون صاحب فطنة ويعرف كيف يُسيِّر الأمور أو ما يُعرف بـ»تدوير الزوايا».
هناك طرق عدّة لمعالجة الأزمة اللبنانية المستفحلة سياسيًا ـ أمنيًا ـ إقتصاديًا ـ إجتماعيًا، ويمكن القول انّ التجارب اللبنانية في التفاوض السياسي في المجمل سيئة جداً سواء أكانت بين الأحزاب المسيطرة على الساحة السياسية أو بين النظام والشعب، فغالبًا ما انتهت بفشل ذريع ورفض الحلول المطروحة، ويلغي الطرف الأقوى بقية الأطراف ويفرض شروطه على الجميع. بات لِزامًا ان تدير مجموعة سياسية جديدة الحوار خارج الدوّامة الحالية وتواجه الأمر الواقع من خارج منطق التفاوض والحلول الوسط وتُقصي كل مخالف للقوانين. هناك قول لوزير الخارجية الاميركي الأسبق هنري كسينجر «إنّ الفاعلية على مائدة التفاوض تعتمد على المبالغة في عرض الطلبات»، وقد يكون من الضروري لمن يدرس أسباب الأزمة اللبنانية أن يُبيِّن مفهومه الخاص للحوار المتجدِّد، فمن الواضح أنّ مواقف المفاوضين الديبلوماسيين تتكيّف وفق ما يفهمونه من مصطلح التجديد وقد يتأثر هذا الفهم بخلفيّات المحاورين. إنّ من يدّعي أنه أهل الحل والربط ويعمل للمصلحة العامة، حتمًا لا يعرف ما هو معنى المصلحة اللبنانية العليا، ولا يُدرك معاني الأمور العامة كمسائل الأمن، والسلم والحرب، والإدارة والسياسة، بل لا يثق بالقوانين المرعية الإجراء ولا يثق بالقضاء وأحكامه، ولا حتى بالدولة وأجهزتها التي يُسيطر عليها عنوةً.
إننا نعيش أزمة لبنانية خطيرة متعددة على نموذج المجتمعات الإنتقالية التي تعاني قسوة أزمات الإنتقال والمُرّشحة بقوة للإخفاق في تجاوز أزمة التحديات، إذا لم نُبادر إلى خلق لجنة حوار حقيقية حول مصير الدولة وعمليًا في الطرق التي يُفكِّرْ فيها الشعب حيال دولته وأجهزتها الرسمية والمدنية والعسكرية. ولعل وفق وجهة نظرنا أبرز نشاط نقوم به هو تكثيف العمل في مقاربة المواضيع السياسية والتي ينتُج منها صوغ هدف وطني كبير وصوغ إجماع فاعل حوله. كُنّا قد اعتقدنا كباحثين وناشطين، كما سائر اللبنانيين، أنّ من سيتولّون أمور الدولة سيحكمون بالعدل وفقًا لمندرجات الدستور والقوانين الدولية ذات الصلة بالقضية اللبنانية وسيُحاسبون كل مخالف، ولكن عمليًا لاحظنا أنّ هناك طبقة سياسية فاسدة إستولت على السلطة بقوة الغش والإحتيال، وإنّ الركائز الأساسية التي تُبنى عليها الأوطان والدول دمّرتها تلك السلطة الفاسدة بنحو ممنهج وبالغ القسوة والعنف. وأدركنا أنّ هذه السلطة بكل مكوّناتها الميليشياوية التي تقتني السلاح خلافًا لوثيقة الوفاق الوطني تعمل بصورة ممنهجة ومنظّمة وعملية لتدمير مقوّمات بناء الدولة ومؤسساتها والمجتمع بدءًا بالسياسة والأمن والإقتصاد وما عداها من مشكلات. والأمر الأكثر حدّة وهو عمليًا يُعدّ خروجًا على الدستور، فجلسات مجلسي النوّاب والوزراء والتي لم يتسنَّ للشعب اللبناني متابعتها عن كثب، هي في الواقع تقاسم الحقائب بين الجماعة السياسية أو من حيث القرارات والمراسيم والمشاريع، وهي فعليًا تخضع لما هو معروف بـ»صُدِّق، صُدِّق…»، ليخرج كل مسؤول إلى الإعلام ليعلن خطابًا تضليليًا أبطاله الطبقة السياسية الحاكمة. في الواقع السياسي لبنانيًا لا حكومة ولا نظام ولا شيء، هناك مجموعة حزبية تختصرها عبر توزيع الحقائب الأساسية على الحلفاء وعلى من يوالونها وعلى من يُصوّتون لها. ويتبيّن لها كباحثين وناشطين من خلال هذا الأداء أنّ الأساسي من هذا العمل السياسي هو حصر العمل السياسي بهذه المجموعة الحزبية ومن يتحالفون معها، وذلك لتداخل مصالحهم بعضها ببعض ولا حاجة لأن نذكر بعض الأمثلة الماثلة للعيان.
يُخطىء من يظنّ أنّ الحلول الهامشية التي تُقترح من هنا وهناك ضمن اللقاءات بين بعض المفكرين هي السبيل للإسراع في إيجاد تسوية سياسية تُنهي الحالة الشاذة في لبنان، فالخيار الديبلوماسي التفاوضي السليم هو الأكثر تحضُّرًا وتحقيقًا لمبادىء علم السياسة وتحقيقًا للأمن الشرعي المبني على مندرجات وثيقة الوفاق الوطني وما يتضمنه قانون الدفاع الوطني وما صدر من مقررات ومواقف عن الصرح البطريركي الماروني لمعالجة جذور الأزمة اللبنانية تحقيقًا للأمن السياسي والإقتصادي والإجتماعي والسلم والأمن الدوليين، في اعتبارهما أحد أفضل مخرجات المفاوضات الدبلوماسية. وعمليًا طرح بكركي هو الأسلم والأسرع لمعالجة المعضلة اللبنانية من خلال العنوانين المطروحين «الحياد الإيجابي» و»مؤتمر دولي من أجل لبنان»، والأزمة اللبنانية مستفحلة الى درجة أنه سيصعب حلُّ معضلتها إنْ تُرِكَتْ للقدر بلا معالجة. صحيح اننا ندرك كباحثين وكناشطين سياسيّن أنّ المدى الزمني المُتاح للبحث في حل ديبلوماسي للأزمة ضيّق جداً بحكم تمسُّك المجموعة الحزبية التي تختصر كل شيء، ولكن هذا الأمر لا يعني إغلاق باب الديبلوماسية للبحث عن حل للأزمة اللبنانية وعلى من يهتمّون بالأزمة اللبنانية المعقّدة إدراك أبعادها كافة وحقيقتها وجوهرها. فالمسألة تتعلق بالقوانين المرعية الإجراء وبالسياسة والتوازنات، ولها بُعد أساسي وهو موقع لبنان الجغرافي وصيغته الفريدة وشعبه الطموح، والأمر وفق وجهة نظرنا كباحثين بعيد تمامًا عن فكرة وضع الحلول الوسطية أو اغتنام الفرصة للتوزير مثلاً، خصوصاً أنّ هناك طرفًا إقليميًا يريد فرض سياسته التوسعية على حساب مصلحة لبنان. إنّ الأزمة اللبنانية لا تحتمل المراوغة من أي طرف، علينا تشكيل لجنة سياسية تبحث في طرق الديبلوماسية عن حل للأزمة اللبنانية وتكثيف الجهود داخليًا ودوليًا لأنّ هناك أزمة مستفحلة من الضروري معالجتها داخليًا ضمن الأطر القانونية الممكنة كما تفعيل النشاط الديبلوماسي الخارجي عربيًا ودوليًا لإيجاد مخرج قانوني للوضع العام في البلاد قبل الإنهيار التّام، وهذه مسؤولية تقع على عاتق صرح بكركي والمناضلين الشرفاء. إننا كباحثين وناشطين سياسيين لا نتناول هذه الأزمة إنطلاقًا من بُعْد شخصي، بل ننطلق من رؤية تحليلية موضوعية تستوعب دروس الماضي والحاضر، فنحن كشعب دفعنا ثمنًا باهظًا ولا نزال ندفع الأثمان الغالية للحسابات والرهانات الخاطئة. فكفى