بعد أقل من 72 ساعة من عودته إلى المملكة، مختتماً زيارة غير مسبوقة لروسيا، يشد ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز الرحال إلى باريس، في زيارة رسمية يلتقي خلالها كبار المسؤولين الفرنسيين، وفي مقدمهم الرئيس فرانسوا هولاند، في نقلة جديدة للديبلوماسية السعودية التي غدت ديبلوماسية مبادرة واقتحام واستباق إلى حيث تكون المصالح الاستراتيجية للمملكة التي ستجني ثمار هذه الزيارة في مقبل الأيام.
لكن زيارة ولي ولي العهد السعودي إلى روسيا لا تزال مثار اهتمام وتحليل، يتقدمه تساؤل مهم عما إذا كانت شكّلت قلقاً لأي من القوى الإقليمية؟ وهل ستتحرك دول معينة لعرقلة العمل السعودي المحوري القادر على التمدد سياسياً، وكسب حلفاء جدد، يدركون أهميتها ومكانتها وصدقيتها وقوة تأثيرها؟ وهل تشير الزيارة إلى تحوّل جديد في ديبلوماسية الرياض وعلاقاتها الدولية؟
أعتقد أنه يجب النظر إلى زيارة ولي ولي العهد السعودي إلى روسيا من حيث توقيتها، ومضمونها، وأدواتها، والملفات التي فتحتها، وتركيزها بشكل خاص على العلاقات السعودية – الروسية، ونقاط الالتقاء والتقارب.
تجمع البلدين مصالح مشتركة وعلاقات قديمة، حتى وإن مرّت بمطبات وتباينات وفتور وبرود في مراحل مختلفة، لكن زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى سانت بطرسبورغ أعادت إليها الدفء مجدداً، ورسمت ملامحها المقبلة.
فقد كانت أول زيارة لمسؤول سعودي كبير في عهد الملك سلمان لروسيا، وفي ظل رغبة القيادة السعودية الجديدة في كسب حلفاء جدد، وليس الاعتماد على تحالفات حصرية، ما يعني الجدية في فتح صفحة جديدة في علاقة البلدين، ومن شأن ذلك المساعدة في حلحلة عدد من الملفات الإقليمية، خصوصاً ملفي سورية واليمن، والحرب على الإرهاب.
وقد تجلت براعة السياسة السعودية في اختيار توقيت الزيارة، إذ تزامنت مع مؤشرات واضحة على استعداد موسكو لتغيير مواقفها في شأن سورية، مع أدلة على مرونة في موقفها حيال اليمن. ولا شك في أن تركيز الزيارة بشكل واضح على أولويات العلاقة بين البلدين يضعها على مسار تعاوني جديد، ما يؤكّد رغبة الطرفين في المضي نحو التكامل في عالم يموج بالتحالفات والتكتلات والمصالح المتقاطعة.
لقد شهدت زيارة الأمير محمد بن سلمان، وهو الرجل الثالث في السعودية، وقائد قوات «التحالف» العربي لإعادة الشرعية إلى اليمن، وكبح جماح المتمردين الحوثيين، محادثات ونقاشات مطولة، ولقاءات عدة مع المسؤولين الروس المؤثرين، إضافة إلى توقيع اتفاقات مهمة، بينها اتفاق للتعاون في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، يقضي ببناء ١٦ مفاعلاً نووياً سلمياً. كما أن الزيارة كانت فرصة للبحث المعمق في قضايا الساعة، وما تمرّ به المنطقة، ونقاط الالتقاء، محققة مراميها بسبب التفاهم والارتياح الذي تبادله بوتين وولي ولي العهد السعودي منذ الوهلة الأولى.
وكان ذلك واضحاً في العبارات التي رحب بها كل منهما بالآخر، إذ أشار بوتين إلى العلاقات «الأخوية» بين الاتحاد الروسي والمملكة. وقال الأمير محمد بن سلمان إن المملكة تنظر إلى روسيا باعتبارها «دولة مهمة في العالم الحديث». ورد الرئيس الروسي بأنه لا يزال يذكر «الترحيب الحار» الذي قوبل به عند زيارته للمملكة في عام 2007. وقال إنه قبل الدعوة لزيارة السعودية «بكل سرور»، فكان ذلك كله تبادلاً يليق بعلاقات بدأت منذ العام 1926.
اللافت أن الزيارة لم تسلّط عليها أضواء إعلامية قبل حدوثها، وجاء وصول ولي ولي العهد السعودي إلى سانت بطرسبورغ مفاجئاً، ما أثار تساؤلات غربية حول تحالف محتمل بين الرياض وموسكو، في ضوء الدور المهم الذي تلعبه كل منهما في المنطقة والعالم، خصوصاً على صعيد النفط، وأزمات الشرق الأوسط، وبوجه التقارب المحتمل بين الغرب وإيران.
تحدث المسؤولون السعوديون والروس خلال الزيارة عن أهمية تطوير العلاقة، واستقرار المنطقة، ورفض «الفوضى»، والتعاون على العمل معاً، للمساعدة في إنهاء أزمات المنطقة الساخنة، وهو ما سيتوّج ببيانات لاحقة بعد لقاء الملك سلمان والرئيس بوتين في موسكو، ثم الرياض تباعاً، خصوصاً أن روسيا كان لها موقف إيجابي تمثل في عدم استخدام «الفيتو» ضد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216 في شأن اليمن، إضافة إلى رفضها لاستخدام النظام السوري للبراميل المتفجرة، وهو ما يؤشر إلى أن المواقف الروسية قابلة للتفهم والتغيير لما فيه مصلحة المنطقة واستقرارها.
وتجلى مصداق نجاح الزيارة في إشارة الأمير محمد بن سلمان في برقية الشكر التي بعثها لبوتين بعد انتهاء الزيارة إلى أن محادثاتهما أثبتت متانة العلاقات والرغبة في تعميق التعاون وفقاً لرؤيتي خادم الحرمين الشريفين وبوتين، وهو ما حدا بصحف روسية إلى وصف الزيارة بأنها أعادت الدفء إلى علاقات لم تكن في أفضل حالاتها. واعتبرتها صحيفة «كوميرسانت» الروسية أفضل تمهيد لزيارة الملك سلمان إلى موسكو.
الأكيد أن السعودية وروسيا بلدان مهمان ومؤثران، وقادران على حلحلة القضايا المهمة، لتأثيراتهما المباشرة وغير المباشرة في بعض دول المنطقة، وهو ما تسعى إليه الرياض، وتتفهمه موسكو.