تجدُّد المساعي الأميركية والفرنسية بين بيروت وتل أبيب، لتطويق التوتر المتصاعد على الحدود الجنوبية، يؤكد جدية التهديدات الإسرائيلية بشن حرب شاملة على لبنان، بحجة إخراج حزب الله من جنوبي الليطاني.
لم يعد خافياً أن نتانياهو يحاول، منذ الأسابيع الأولى لحرب غزة، وإعلان حزب الله «فتح جبهة المساندة»، أن يفتح الجبهة الحدودية، لتغطية فشل حربه في الجبهة الجنوبية، ولصرف أنظار العالم عن المجازر الجماعية التي يرتكبها يومياً بحق المدنيين في مدن القطاع.
ولكن الضغوط الأميركية والأوروبية على تل أبيب لجمت إندفاعة نتانياهو المتهورة، وأبقت المواجهة النارية في الجبهة الشمالية تحت سيطرة قواعد الإشتباك، من جانب حزب الله على الأقل، فيما عمد العدو الإسرائيلي إلى تصعيد متدرج، تركز على إستعمال الطيران الحربي والمدفعية لتنفيذ مخطط تدميري ممنهج للقرى الأمامية في الشريط الحدودي، وتحويل البيوت والمنشآت العامة إلى مجموعة أنقاض، في إطار سياسة الأرض المحروقة للبشر والزرع والحجر، بهدف إنشاء منطقة عازلة بعمق يتراوح بين ٥ و١٠ كيلومتراً.
المقترحات الفرنسية التي حملها معه وزير خارجية باريس ستيفان سيجورنيه إلى بيروت، تُعطي الأولوية لتنفيذ القرار ١٧٠١، وبسط سلطة الجيش على منطقة جنوب الليطاني، والتعاون مع قوات الأمم المتحدة ( اليونيفيل) في الحفاظ على الأمن والإستقرار على الجانب اللبناني، تمهيدا لحل المشاكل الحدودية العالقة مع الجانب الإسرائيلي، وبحث إمكانية العودة إلى إتفاق الهدنة المعقود عام ١٩٤٩، بناءً لطلب لبنان.
في الوقت نفسه ذهب الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين إلى تل أبيب للبحث في إمكانية تخفيف التوتر على الجبهة اللبنانية، وإبقائها تحت السيطرة العملية، بهدف منع وصول صواريخ حزب الله إلى الداخل الإسرائيلي. ولكن ما سمعه موفد البيت الأبيض للوساطة بين لبنان والكيان الصهيوني، يُحبط أكثر المتفائلين إيجابية، لأن العدو الإسرائيلي، إشترط عودة المهجرين من سكان المستوطنات الشمالية، قبل التوصل إلى إتفاق التهدئة مع الجانب اللبناني. الأمر الذي أحبط مهمة الموفد الأميركي، الذي قرر العودة مباشرة إلى واشنطن، وعدم زيارة بيروت، كما كان متوقعاً، بعد فشل جهوده للمرة الثانية، في تسجيل تقدم في الموقف الإسرائيلي.
مع تعثر المساعي الديبلوماسية على الجبهة الشمالية مع لبنان، وإستمرار التصعيد الناري الراهن، تتجه الأنظار إلى القاهرة، بعد إعادة الحياة إلى مفاوضات الهدنة في غزة، وتزايد الضغوط الأميركية خاصة، والدولية بشكل عام، لإعلان وقف فوري لإطلاق النار، يسمح لأهالي غزة بالعودة إلى مناطقهم، رغم الدمار الواسع الذي لحق بها، إلى جانب فتح معابر المساعدات الغذائية والدوائية، والبحث في «اليوم التالي» الذي سيعقب وقف النار وإنسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع.
ساهمت إنتفاضة الطلاب في الجامعات الأميركية، وانضمام شرائح واسعة من الشباب الأميركي إلى المعارضين لحرب الإبادة الجماعية في غزة، ساهمت بشكل غير مباشر في تأخير قرار نتانياهو إقتحام رفح، حسب الإعلام الأميركي، الذي حذر العديد من الصحف ومحطات التلفزة، من التغييرات الحاصلة في الرأي العام الأميركي، بعد تدني مؤشرات التأييد لإسرائيل، مقابل إرتفاع حجم الجماهير الداعمة لغزة، والمستنكرة لسكوت واشنطن على المجازر الوحشية في غزة.
اللبنانيون يتتبعون أخبار مفاوضات الهدنة في القاهرة، على أمل أن تؤدي الهدنة في غزة،إلى إنقاذ رفح من الإجتياح، وإلى وقف إطلاق النار في الجنوب، والعودة إلى الوساطة الأميركية لترسيم الحدود البرية، وتنفيذ القرار الدولي ١٧٠١، وإعادة الأمن والإستقرار إلى الربوع الجنوبية.
أصبح واضحاً أن اللبنانيين لا يريدون الحرب، وغير جاهزين لخوضها، بل البلد غير مهيأ لتحمل تداعياتها المدمرة، بغض النظر عن حجم الأضرار التي ستلحق بالمدن الإسرائيلية والمرافق الحيوية.
وفي ظل غياب الإجماع الوطني على قرار الحرب، فإن أي إنزلاق نحو مواجهة مفتوحة مع العدو الإسرائيلي، سيزيد حدة الإنقسامات اللبنانية، ويضرب قواعد الوحدة الوطنية، التي تُعاني أساساً من إهتزازات سابقة، تُضعف الموقف اللبناني في مواجهة متطلبات العدوان.
تجنيب لبنان كأس الحرب المريرة يتطلب الكثير من الحكمة والتبصر، والأخذ بعين الإعتبار الواقع المأساوي لأكثرية اللبنانيين، لا سيما أبناء الجنوب الصامدين بكبريائهم أمام آلة العدوان التدميرية، رغم الغياب شبه الكامل للدولة اللبنانية.