Site icon IMLebanon

إقتناع ديبلوماسي: سلطة لم ولن تسأل عن شعبها

 

من يراقب الحركة الديبلوماسية الناشطة للسفراء المعتمدين لدى لبنان يكتشف بسهولة وجود اقتناع راسخ لدى اكثريتهم، وخصوصاً سفراء مجموعة العمل الدولية من أجل لبنان، بفقدان الثقة بالمنظومة السياسية اللبنانية، إلى درجة لم يعد أي منهم يتراجع عن كيل الاتهامات الصريحة في حقها، بعيداً من اللغة الديبلوماسية المنمقة. وعليه طُرح السؤال: لماذا وصلت الأمور إلى هنا؟ وما هي النتائج المترتبة عليها؟

سمحت عطلة الاعياد مع نهاية سنة وقدوم اخرى بأكثر من جلسة تقييم للتطورات التي شهدتها الساحة اللبنانية منذ سنوات متتالية، ألغت مثل هذه المناسبات في شكلها وتوقيتها ومضمونها التقليدي، للفصل بين مرحلة وأخرى. وبات من الصعب توصيف ما حملته إحدى السنوات السابقة باستثناء تلك التي شهدت استحقاقات دستورية مفصلية لها مهلها المحدّدة، والتي لا يمكن تجاهلها.

 

وعليه، يعترف أحد أبرز الديبلوماسيين الناشطين على الساحة اللبنانية، وهو يستعد لتمضية الأشهر الاخيرة من مهمّته في بيروت، انّ تقييم هذه المرحلة الأخيرة عزّز لديه ولدى مجموعة من رفاقه، الشعور بصعوبة استيعاب الفوارق الكبيرة الفاصلة بين مجموعة التعهدات التي قطعها المسؤولون اللبنانيون امامهم وأمام عدد من المراجع الدولية والأممية والبعثات المتخصصة، التي عبّرت عن اهتمامها بالملف اللبناني، والتصرفات التي تلت تلك المحطات الكبرى التي كان يُعتقد انّ تنفيذها والالتزام بما قالت به، يمكن انّ يرسم الخطوة الأولى من خريطة الطريق الأقصر إلى التعافي والإنقاذ، الى درجة لم تعد تُحتمل. واضاف: «لقد فوّت اللبنانيون عليهم اكثر من فرصة ذهبية، بعدما تسببت بعض الأزمات الدولية، وخصوصاً تلك الصحية والوبائية منها كما الطاقوية، ليحتل لبنان موقعاً بارزاً على لائحة الدول التي تستحق العون والمساعدة، أسوة بكثير من الدول التي وضعت على جدول الرعاية الدولية. وفي الوقت الذي دفعت جائحة «كورونا» إلى الغاء الحدود بين القارات والدول، وجعلت العالم قرية كونية صغيرة إثر اعلان استنفار دولي لم يسبق له مثيل، جاءت الأزمة الأوكرانية قبل عام تقريباً، لتطلق أزمة دولية شاملة أخرى، دفعت إلى إعلان حال مماثلة من الاستنفار على المستوى الغذائي والطاقوي، كان اللبنانيون منشغلين بأزماتهم الداخلية وفق مسار من المناكفات والمكائد المتبادلة، عبّروا فيه عن قلّة إدراك وعناية واهتمام بما يعانيه اللبنانيون والمقيمون على الأراضي اللبنانية، ومن بينهم النازحون واللاجئون».

 

واستطرد ليقول: «برّر لنا المسؤولون اللبنانيون من دون استثناء أي منهم، وفي أكثر من مناسبة، انّ ما يعانيه لبنان لا مثيل له في العالم، ولم يسبق ان شهدته دولة أخرى. فما بين أزمتي كورونا واوكرانيا، كان لبنان قد دخل ومنذ ثلاث سنوات أزمة نقدية ومالية غير مسبوقة، لم يكن أحد يتوقعها، فتشابكت وتناسلت الأزمات، وزاد من خطورتها تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020 وما تسبب به من نكبات رفعت نسبة المآسي إلى الذروة، ما زاد من حال الإرباك التي عاشتها الساحة اللبنانية إلى درجة افتقدت فيها المقومات البديهية لاستمرار العيش بالحدّ الأدنى الطبيعي الذي تحدثت عنه المعايير الدولية المعتمدة ووثّقته الشرائع والاتفاقات الدولية. فزادت نسبة الفقر المدقع، وارتفع منسوب القلق على مصير الدولة ومؤسساتها، بعدما فقدت معظمها وجودها لمجرد انّها لم تعد تتمكن من القيام بمهماتها، ولا سيما منها الخدمات اليومية لمواطنيها».

 

«لم يكن ذلك ليقنعنا – قال الديبلوماسي العتيق – فالقرارات التي اتُخذت عقب أي منها عبّرت عن استهزاء واستلشاق «باللهجة اللبنانية المحكية»، بحياة الناس، ولم يغيّر اي منهم سلوكياته ونهجه وآلية العمل المعتمدة. وكأنّ امراً ما لم يتغيّر. حتى انّه رفض ان يتطور في عمله وسط أزمة أخلاقية سمحت لكثير منهم التبرؤ من المسؤولية بالحدّ الادنى منها، وفي حالات لا تخضع لأي نقاش. فسخّر أهل المنظومة كامل قواهم الأمنية والاستخبارية والسياسية والإدارية، ليمعنوا في تعزيز سلطتهم وسط خلافات كبيرة تبودلت خلالها كل أشكال الاتهامات، في مواجهات قامت على قاعدة حماية الصلاحيات والمواقع «المقدّسة» من دون التطلع إلى ما يمكن ان يُتخذ من إجراءات كان يمكن الإقدام عليها للتخفيف من آلام الناس المصدومين من التطورات المتسارعة».

 

على هذه الخلفيات السردية يعترف الديبلوماسي، انّه ومعه مجموعة من رفاقه المهتمين بأدق التفاصيل اللبنانية، انّ «مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان» منذ ان شُكّلت قبل عام على نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان في 26 أيلول العام 2013 على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، قالت هذه المجموعة ومنها ومعها الهيئات الأممية بضرورة العمل على تعزيز سياسة «النأي بالنفس» تأسيساً على إعلان بعبدا الذي ولد في كنفها بالتزامن مع اجراءات اصلاحية كان لبنان قد تعهّد بها في سلسلة مؤتمرات باريس، من اجل تصويب الأداء الرسمي والسياسي وتعزيز آليات الحوكمة الرشيدة والتعاون في مجالات مواجهة نتائج الأزمة السورية المدمّرة، التي لم تكن بعد قد أرخت بكل ثقلها على دول الجوار وعلى لبنان تحديداً، فتعددت ولاءات اللبنانيين، وزاد ارتهان البعض منهم للخارج، الى ان ضُمّت الساحة اللبنانية إلى الساحات الملتهبة، فتغيّرت مفاهيم كثيرة لا يحتمل البلد الصغير نتائجها الخطيرة.

 

ولم تتوقف مناكفات اللبنانيين عند هذه المحطات، فجاءت الانقسامات الداخلية لتعزز الشروخ بين اللبنانيين، إلى درجة فصلت بين أهل السلطة ومواطنيها. فاللبنانيون الذين تناسوا كثيراً من خلافاتهم الداخلية انخرطوا في موجة غضب انطلقت في 17 تشرين، فصبّت كل الجهود لتذكيرهم بانقساماتهم المذهبية قبل السياسية والاقتصادية الجامعة التي وحّدت معاناتهم، إلى درجة توحّد فيها أهل السلطة وتناسوا خلافاتهم، ليس من أجل مواجهة الاستحقاقات الوطنية وإنما لتعزيز مواقعهم، فتناسوا هموم الناس وتمّ استنزاف قدراتهم بأسرع الآليات الممكنة، إلى ان وقع الانهيار الكبير، فتوحّد اللبنانيون في الأزمات من دون القدرة على محاسبة من تسبّب بها.

وتأسيساً على ما تقّدم، تتحدث محاضر الجلسات الأخيرة بين ديبلوماسيين وهيئات مدنية وقيادات روحية، عن عتب كبير على الطاقم السياسي الذي لم يحتسب حاجة الناس، إلى تجاوز المصالح الصغيرة، فانخرطوا في مواجهات شخصية أدّت إلى توليد مجلس نيابي بمعادلات متوازنة سلبياً، ومنعت تركيبته تشكيل حكومة جديدة على مدى 6 أشهر وانتخاب رئيس جديد للجمهورية للأسباب عينها. فمصالح بعض الأقطاب تقدّمت على المصالح العامة، وقادت المناكفات المباشرة في ما بينهم إلى تعطيل السلطات الدستورية واحدة بعد اخرى. فقبل خلو سدّة الرئاسة تعطّل القضاء وتوقفت الخدمات العامة ومن بعدها اندلعت فوضى دستورية تتحكّم بعمل مجلس الوزراء، وإن لم يتجاوز المجلس النيابي استحقاق انتخاب الرئيس سيسقط الرهان على آخر السلطات التي يُعوّل عليها لإعادة انتظام الحياة السياسية في لبنان.. والآتي أعظم.