ما بين فعاليات مؤتمر «ميونيخ للأمن» وباريس ولندن وبروكسل حيث انتشرت الوفود اللبنانية، حَضر ما يسمّى ملف لبنان بوجهَيه العسكري والدستوري ما شكّل قيمة مضافة لتلك التي أثارتها الحركة الديبلوماسية في بيروت. وما التقت عنده المحادثات يكشف انّ النقاش العقيم ما زال قائماً وربما عاد الى نقطة الصفر. وهو ما ترجَمه مصدر ديبلوماسي أوروبي بقوله لأحدهم «دخلتم النفق الليبي» في وجود أزمة لا حل لها حتى اليوم. وعليه، ما الذي يعنيه هذا التوصيف؟
على خلفية ما قالت به الآية القرآنية «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ»، التقى أكثر من زائر لبناني قصد أوروبا في الايام القليلة الماضية على التأكيد بما يعزز اقتناعه بمضمون هذه الآية الكريمة ومدى تفسيرها لواقع الأمور وترجمتها لحجم الاهتمام الدولي بمساعدة لبنان، ومحدودية حجم تجاوب اهل الحكم والحكومة ومعهم القيادات اللبنانية مع سلسلة المبادرات والاقتراحات المطروحة لإنقاذه والسعي الى تقدّمه ولو بخطوات وئيدة لولوج الطريق المؤدي إلى مرحلة الاصلاح فالتعافي والإنقاذ.
لا تقف القراءات الديبلوماسية عند توصيفها للوضع في لبنان وما انتهت إليه جهود الموفدين الدوليين عند هذه الحدود، وهي معطوفة على الجهود المبذولة في الداخل كما في الخارج لفصل قضايا لبنان الداخلية عما يجري في المنطقة والعالم، ووضع حَدّ لِما يعيشه اللبنانيون من ازمات تناسلت واستفحلت الى أن عَمّت مختلف وجوه حياتهم. لا بل فهي ماضية في تحذيرها مما هو آت من مطبات واستحقاقات خطيرة قد تقضي على ما تبقّى من مقومات صمود اللبنانيين وهم في قعر القعر ما لم تسد الثغرات القاتلة في اسرع وقت، لا سيما منها تلك التي تُنعش الحياة الدستورية بانتخاب الرئيس العتيد للجمهورية وضمان الحد الادنى من الاستقرار الذي يُحيي الثقة الداخلية والخارجية بالدولة ومؤسساتها وإنهاء ما يُفسِد على اللبنانيين حياتهم.
ومع هذه التحذيرات لم يتخلّف المسؤولون الامميون ومن دول كبرى تلتقي على كل ما هو مطلوب من اللبنانيين، عن التوضيح بأنّ المجتمع الدولي لم يوفّر وسيلة لتقديم العون من أجل عبور بعض الاستحقاقات الدستورية والمالية والادارية المُلحة في لبنان، وقد أوحَت بمعظمها ورسمت خريطة الطريق اكثر من مرة عند توصيفهم لأداء اهل الحكم في لبنان وألقت الضوء على عجزهم عن الإقدام على خطوات واضحة لم تكن كلفتها باهظة بمقدار ما اصبحت عليه اليوم. وهي مسؤولية أُلقيت قبل فترة طويلة على من يمتلك قرار الحل والربط في كثير من الإجراءات التي تعثرت او أُرجئت لأسباب مختلفة لا تليق بمواصفات اي رجل دولة تعنيه هموم شعبه بدلاً من هموم مجموعته أو حزبه على حد سواء. وهم ليسوا بقلائل، ولو جَمعوا طاقاتهم في خدمة الجميع بدلاً من التلهّي بالمعارك الصغيرة والمناكفات حول صلاحياتهم ومطالب مجموعاتهم الصغيرة قبل ان يقودوا بلداً أو شعباً الى ما ليس له أي أفق او أي هدف واضح يضمن وحدتهما وسلامتهما.
لم تكن الرسالة التي وَجّهها المجتمع الدولي واضحة بالنسبة الى البعض قبل ان تتعثر المبادرات الدولية والإقليمية الأخيرة، والتي دفعت ببعض الديبلوماسيين ليكونوا أكثر وضوحاً مع زوارهم من اللبنانيين. ومن هذه الزاوية تحديداً كشف احد زوار العواصم الاوروبية العائد من مجموعة مؤتمرات ولقاءات انّ بعض المراجع الدولية باتت اكثر «وقاحة» مع اللبنانيين الى درجة قد يشعر سامعه بالخجل، والتمني لو لم يكن حاضراً. فالغياب كان افضل بالنسبة إليه عندما يكشفون عمّا دار في بعضها، وخصوصاً المنفردة، حيث تكون الرسالة أوضح من تلك التي يشهدها مؤتمر أو لقاء دولي تتعدّد فيه القوى والأطراف المعنية وغير المعنية بما يجري في لبنان.
وعند إعطاء بعض الأمثلة، ينقل أحد الديبلوماسيين المنخرطين في ورشة الإتصالات المتشعبة انه وجّه سؤالاً الى مرجع دولي يعرف مشكلات اللبنانيين بأدق تفاصيلها المُملة، وقد جَمعها من تقارير جريئة ودقيقة وسرية تسلّمها أخيراً في موازاة مشاركته في المعالجات الجارية عن «موقع لبنان في سلم الاهتمامات الدولية وأولوياتها»، فرَدّ عليه بكل بساطة قائلاً: «انّ الاولوية الدولية اليوم من ثلاث كلمات وهي «غزّة وغزّة وغزّة»، وعن ثانيها قال ثلاث كلمات أخرى، هي: «أوكرانيا وأوكرانيا وأوكرانيا».
وعندما سأله عن موقع لبنان في مثل هذه اللائحة وما تحمله من معادلة بسيطة، رَد بالتورية وقال: إن لم أجبك انا، لئلّا اكون قاسيا او مزعجا على الاقل، أحيلك الى ايّ من اللبنانيين الوسطاء الذين تولّوا أخيراً مهمات دولية في بعض الأزمات الكبرى. ليقول لك انّ الأقرب الى وضع لبنان انكم دخلتم «النفق الذي دخلته الازمة الليبية» من قبلكم. ولمّا طلب مزيداً من التفاصيل، رَد قائلاً: «هناك بعض الأزمات الدولية التي لا يمكن مقاربتها بسهولة. فإن نجحت في توصيف مظاهرها وتردداتها الخطيرة والتي لا يمكن إخفاؤها على احد، يظهر بوضوح انّ ما هو أخطر يكمن في انه لا حل لها. وما لم تتولّون ابتداع الحلول بأنفسكم لن يجد أحد لكم اي حل مهما صدقت النيات والاهداف».
انتهى اللقاء بهذه العبارات «المفتاحية»، كمؤشّر الى عدم جدوى كثير من الحراك الدولي الذي يدّعي بعض المسؤولين القيام به ما لم يحقق شيئاً مما هو مطلوب في الداخل. خصوصاً انّ من بينهم مَن أمضى عقوداً في المفاوضات الخارجية والداخلية ولم يتّعِظ من اي خطأ أو جريمة قد ارتكبت في حق لبنان واللبنانيين، ولم يغيّر من استراتيجيته قيد أنملة. ذلك انّ ما سمعه بعض اعضاء الوفود في الاسابيع الاخيرة، دَفعه الى استرجاع الماضي وما اطّلع عليه قبل عقود في مراحل متشابهة رافَقت المساعي التي بذلت من أجل معالجة الأوضاع النقدية والمالية قبل «النجاح» في «تهشيل» بعثة صندوق النقد الدولي من لبنان وسقوط مسلسل المؤتمرات الخاصة بلبنان، والتي كان مؤتمر «سيدر 1» آخر ضحاياها، وقبله كانت مؤتمرات «باريس 1 « و»باريس 2» ومعها تلك المتخصصة التي عقدت في أكثر من عاصمة، والتي تبخّرت مكتسباتها وانجازاتها في أكثر من محطة دموية ومالية وسياسية ودستورية عدا عن المناكفات الداخلية التي انعكست نصيحة للموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان بعدم زيارة لبنان مخافة أن تنتهي مهمته، والى نظيره الاميركي عاموس هوكشتاين لعدم وجود أيّ جواب عن اسئلته مع نصيحة أُسدِيت بعدم التعويل على «الخماسية الدولية» طالما انه لا مشكلة في غياب رئيس للجمهورية منذ 15 شهراً وحكومة تفتقد مواصفاتها الدستورية تُدير البلاد منذ 21 شهراً.
عند هذه الملاحظات وغيرها مما لا يليق الاشارة إليها ها هنا، يتفرّج اللبنانيون على خطوات متعثرة تستجلِب الفتنة التي تطلّ بقرونها من وقت لآخر على خلفيات قرارات وخطوات تعبّر عن التخبّط الذي يعيشه أركان الحكم، وقد سقطت هامات من عقول وقلوب اللبنانيين الباحثين عن رجال دولة فقدوا من زمنٍ غابر.