إلتقت مراجع ديبلوماسية غربية وعربية على التعبير عن مخاوفها من مدى الاستهتار الذي عبّر عنه المسؤولون اللبنانيون تجاه ما هو مطلوب منهم، قياساً على نوعية وحجم النصائح الدولية والأممية التي يمكن ان تشّكل أولى الخطوات المطلوبة، للسير بخريطة الطريق إلى التعافى والإنقاذ. وإن طُلب منها الحديث عن المؤشرات التي دفعتها إلى هذا الشعور فإنّها لا تتردّد في تعداد ما لا يُحصى منها على أكثر من مستوى. وهذه عينة؟
من دون إعداد مسبق، أحصت مراجع مطلعة مجموعة من الملاحظات الديبلوماسية التي أجمع عليها سفراء عرب وغربيون – بما يشبه اللغة التحذيرية الموحّدة – تجاه النتائج المترتبة على الاستمرار في سياسة المناكفات والتحدّي على الساحة اللبنانية، والتمادي في تجاهل ما يقول به الدستور، التي امتهنها بعض ممن يمسكون اليوم بمفاصل السلطة على مختلف المستويات. وهم على يقين انّ بعضاً من ممارساتهم، لا بل فإنّ اكثريتها اتخذت على ما يفرض بقوة الأمر الواقع، وهي تشكّل انتهاكاً وتجاوزاً لمجموعة من المعايير والخطوط الملونة المتدرجة بنسبة خطورتها، وصولاً إلى الخطوط الحمر التي لم يشأ البعض تلمّسها، ليس بسبب جهلهم بها وبمخاطرها وما يمكن ان يترتب عليها من نتائج، إنما من اجل الوصول إلى تحقيق بعض الرغبات والأمنيات، مع إدراك أصحابها المسبق بالكلفة المقدّرة على البلاد والعباد.
وإن كان البعض من القادة اللبنانيين الذين يتقنون اللعب على حدّ السكين، في لحظات تبدو أنّها على قاب قوسين من الانفراج والانفجار ـ سواء بقدرتهم الذاتية أو قياساً على حجم ما يحظون به من دعم خارجي متنوع مادياً وسياسياً – فإنّ عليهم، حسب التحذيرات الديبلوماسية، التوقف عن سياسة الإنكار لما يمكن ان يقود اليه بعض السياسات المتشدّدة والخطيرة، لمجرد بلوغها عن قصد او غير قصد حدّ المواجهات الكبرى الدائرة بين المحاور المتنازعة على اكثر من ساحة اقليمية ودولية. فمثل هذه الخيارات التي تحاذرها قوى ودول إقليمية نامية، قطعت أشواطاً مهمّة بما تمتلكه من ثروات محدودة على طريق النمو التصاعدي، لا تقوى على تحمّلها دول صغيرة لها قدرات متواضعة. فكيف إن كانت في مستوى ما بلغه لبنان من انهيارات طاولت كثيراً من قدرات الدولة ومقومات وجودها.
وعليه، وأمام هذه المؤشرات التي لم تعد في شكلها ومضمونها، وما يمكن ان تأتي به من شرور من أسرار الدولة والمجتمعات السياسية والحزبية والوطنية، فقد ارتفعت نسبة التحذيرات الدولية والأممية مما هو آتٍ قريباً، إن بقيت الامور على ما هي من مناكفات وتحدّيات لا يمكن وضع حدّ لها في ظل ما يمتلكه أصحابها من قدرات وهمية وضمانات مؤقتة، إن لم يلجأ اصحابها إلى التراجع عنها والعودة إلى المنطقة الوسطى المطلوبة، للتلاقي على الحدّ الأدنى من القواسم المشتركة التي تضمن الحفاظ على ما تبقّى من مقومات الدولة ومقدراتها، بعيداً من الحسابات الشخصية وما تعبّر عنه من ديماغوجية فائقة ميّزت كثيراً من القرارات التي اتخذها البعض من دون تقدير العواقب المرتقبة. عدا عمّا يمكن ان تنتهي اليه، ليس على المستوى الشخصي لأصحابها فحسب، إنما على المستوى الوطني. فهي تتعدّى حدود الدولة ومؤسساتها وقدراتها، لتلقي بظلالها السلبية على علاقاتها الدولية في مرحلة اممية ودولية هي الأخطر. وهي معادلة بُنيت على ما آلت إليه النزاعات الدولية التي فرزت العالم بين معسكرين يمتلكان قدرات هائلة جُنّدت في مواجهات لا محدودة، توزعت على مساحات الكون الجغرافية وعلى المستويات العسكرية والاقتصادية وصولاً إلى منابع الطاقة والثروات الطبيعية التي غيّرت كثيراً من مسارات التفاهمات الدولية، فجمعت خصوماً وأعداء مع اصدقاء التقت مصالحهم المؤقتة على إدارة بعض الأزمات، وإن ادّت إلى تدمير بعض الكيانات بدرجات متفاوتة.
لا تقف التحذيرات التي نقلتها مراجع ديبلوماسية إلى عدد من المراجع الرسمية والحزبية والروحية عند الحديث عن حجم الهموم الدولية التي صرفت الانظار عمّا يجري في لبنان وبعض الدول من أزمات داخلية. وقد تجاوز بعضها المألوف، إلى الحديث عن احتمال حصول متغيّرات دولية كبرى أبعدت بين حلفاء واصدقاء الأمس، وربما أعادت جمع بعض الخصوم ولو على القطعة. ولم يتردّد أحد الديبلوماسيين من التحذير من حجم ما يمكن ان يطاول لبنان من عقوبات قد تزيد من حجم الأزمات التي يعانيها الوطن الصغير. ففقدان الوسائل الضامنة لحماية قيمة العملة الوطنية وانعكاساته السلبية، ليس على القطاع المصرفي وحجم الإنهيار المالي في البلاد فحسب، فهي لن تتوقف تأثيراتها عند ما هو تقليدي من نتائج. والأخطر إن ادّت بعض الإجراءات القضائية إلى المسّ بالخيط الرفيع الذي ما زال يربط هذا القطاع بالمصارف الوسيطة المراسلة في الولايات المتحدة الاميركية وعندها ستتجّه الامور إلى ما لا يتصوره أحد من تأزيم. فقد توسعت رقعة التعاطي بالمال النقدي في القطاعات كافة، وباتت مؤسسات الدولة تعمل من خارج النظام المصرفي، عند ما اتخذته وزارة المال من إجراءات فرضت التعاطي بمليارات الليرات اللبنانية النقدية كرسوم وضرائب. هذا عدا عن الأسواق الرديفة التي يمكن ان تتحوّل مجالاً لتبادل المال الشرعي وغير الشرعي، النظيف المتأتي من عمليات مالية طبيعية وغير الشرعي من أسواق سوداء، بما يمسّ الأمن القومي كما الأمن الغذائي والطبي والإنساني والخدماتي.
لا تقف التحذيرات الديبلوماسية عند هذه الملاحظات فحسب، فقد عاد مسؤولون لبنانيون من مؤتمرات وجولات دولية، يحملون معهم مجموعة من السيناريوهات المخيفة التي يمكن ان تنعكس على حجم الدعم الدولي للبنان، وربما طاولت النازحين السوريين وسكان المناطق المضيفة لهم، بطريقة قد تتقلّص الخدمات لهم إلى الحدّ الأدنى الذي يمكن ان يفجّر مجموعة من الأزمات الاجتماعية، وربما تطورت إلى أعمال مخلّة بالأمن تهدّد الحدّ الادنى مما هو متوافر منه، عدا عن الحالات الاجتماعية التي تهدّد فئة كبيرة من المواطنين الذين فقدوا لقمة العيش، ولم يعد امامهم سوى مدّ اليد بالقوة الغادرة إلى ممتلكات الآخرين ومقتنياتهم.
ليس في ما سبق مجرد روايات او سيناريوهات وهمية سوداء، فإنّ من بين المسؤولين الذين ما زالوا يتحمّلون المسؤوليات الأمنية والمالية بجدارة، من يرى بأم العين مثل هذه التطورات المتوقعة في اي وقت. والأخطر انّهم يدركون أنّ ما من وسيلة للمعالجة، فكيف إن زادت منها الكوارث الطبيعية التي قد يتسبب بها زلزال او هزة ارضية، بعدما تعدّدت مظاهرها المخيفة نتيجة ظواهر طبيعية غير مسبوقة. وهو ما طرح السؤال، إن كان المسؤولون قد استوعبوا حجم التحدّيات المفروضة عليهم، ليتراجعوا عن غيهم في بعض المسارات السياسية والدستورية التي تقود إلى مزيد من الأزمات والمآسي، وخصوصاً إن تراجعت الرعاية الدولية، التي ما زلنا نحظى بما دون الأدنى منها.