لم يسبق أن سُمح لجهاز أمني باقتحام إدارة رسمية لإجراء تحقيق مع موظفين إداريين. جبران باسيل، جرّد ستة دبلوماسيين وموظفا إداريا من حصانتهم، لنيته كشف مُسرّب ثلاثة تقارير دبلوماسية إلى «الأخبار» (نشرتها «الأخبار» يومي 19 و14 نيسان الماضي). بهذه الحجّة، انتشر ملثمون من عناصر أمن الدولة حول الخارجية، ثم دخل مديرها اللواء طوني صليبا مع مجموعة من الضباط والعناصر الى مكتب الوزير قبل ان يتوزعوا امنيا في قاعات اخرى لزوم التحقيقات. دخل اعضاء الجهاز إلى وزارة الخارجية كما لو أنّهم يبحثون عن مطلوبين إرهابيين. أُهين السلك الدبلوماسي، وكُسرت هيبته، واعتُدي على خصوصيات السفراء، من دون العثور على دليل واحد على التهمة التي يريد باسيل إلباسها إلى عدد من السفراء.
في وزارة الخارجية والمغتربين، موظف يُدعى خ.خ.، وظيفته هي إتمام الربط الإلكتروني بين الوزارة وبين البعثات اللبنانية في العالم. بداية 2017، وصلت إلى «الخارجية» شكاوى من البعثات اللبنانية في مرسيليا ولوس أنجلس وديترويت، بأنّ خ.خ. كان يستغل وظيفته للتحرش جنسياً بموظفات («الأخبار» – عدد 7 حزيران)، واُرفقت الشكوى المُرسلة في حينه من لوس أنجلس، برسالة تتضمن شهادات موقّعة من عددٍ من موظفي البعثة. كيف تعاملت «الخارجية» مع القضية؟ خ.خ. لا يزال يُداوم في قصر بسترس، وصدر قرار يسمح له باستكمال مهماته في الخارج، مُستفيداً من الحماية التي وفّرها له فريق وزير الخارجية. فالموظف المُتهم بتحرش جنسي، منتسبٌ أيضاً إلى التيار الوطني الحرّ.
في العام نفسه (2017)، تجاهل وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل وجود تقرير مُرسل عام 2012 من السفارة اللبنانية في هولندا، حيث كان يخدم الدبلوماسي رامي عدوان، وفيه معلومات حول سلوك الأخير الإداري، الذي كان يتفوه بكلمات نابية بحقّ لبنان ووزارة الخارجية، وطريقة تعامله مع زملائه، واتهامه بقضايا يُعَدّ بعضها جرائم جنائية (الأخبار – 20 تموز 2017). إلا أنّ باسيل قرّر أنّ عدوان «ضحية» ملفّ مُلفق من قِبَل حركة أمل، لرغبتها تعيين شخصٍ مكانه في هولندا. المكافأة أتت من خلال تعيين عدوان مُديراً لمكتب الوزير، قبل أن يستقيل ليُعيّن سفيراً لدى فرنسا، من خارج الملاك الإداري بسبب انتمائه إلى الفئة الثالثة التي لم تكن لتسمح له بترؤس بعثة.
في الحالتين، ورغم وجود مستندات كان بإمكانها أن تُشكّل ركيزةً لأي تحقيق داخلي يصل إلى التفتيش المركزي، وفق الأصول والأعراف الإدارية والدبلوماسية، جرت «اللفلفة» على الطريقة اللبنانية، بعكس ما حصل أول من أمس. في 19 و24 نيسان 2019، نشرت «الأخبار» ثلاثة محاضر دبلوماسية مُرسلة من سفارة لبنان لدى الولايات المتحدة، حول لقاءات وفود لبنانية مع مسؤولين أميركيين. لا يملك باسيل دليلاً أو مستنداً أو وثيقة، تُشير إلى أنّ مصدر التسريب هو الإدارة المركزية… أو حتى جهة دبلوماسية. مع ذلك، قرّر يوم الاثنين القفز فوق كلّ الأصول، كما لو أنّه رغم عامه الخامس كوزيرٍ للخارجية، لا يزال لا يفقه بأعراف هذه الوظيفة. فسيُحفظ في خانة «إنجازات» وزير الخارجية والمغتربين، أنّه طلب تحويل قصر بسترس إلى «مسرح جريمة»، مُستباح من قبل عناصر أمن الدولة المُلثمين، والمنتشرين بكامل عتادهم العسكري داخل أروقة الوزارة. هو الوزير الذي غطّى عملية التعرض لكرامات الدبلوماسيين، ورفع الحصانة عن أعضاء فريق عمله، سامحاً بانتهاك خصوصياتهم، والتعامل معهم بوصفهم «مُجرمين إرهابيين».
صباح أول من أمس، فوجئ العاملون في «بسترس» بطوق أمني كثيف حول المبنى الوزاري في الأشرفية. سيارات أمن الدولة، تُقفل بوابات الوزارة. رجال امن مسلّحون بالكامل، يُغطون وجوههم بأقنعة سوداء ورؤوسهم بخوذ معدنية، ينتشرون في الساحة الخارجية وباحة القصر الداخلية. وعسكرٌ بلباسهم المدني، يتنقلون بأسلحتهم، بين مكاتب الدبلوماسيين. «الخارجية» تحت سلطة العسكر. وجبران باسيل سلّم «الأمانة» إلى اللواء صليبا، وغادر. فالوزير كان قد قدّم شكوى جزائية، كَلَّف على أساسها النائب العام الإستئنافي في بيروت القاضي زياد أبو حيدر المديرية العامة لأمن الدولة إجراء التحقيق اللازم في موضوع تسريب مراسلات دبلوماسية «خلافاً للقانون».
قبل مغادرته، جمع باسيل في مكتبه الأمين العام للوزارة وأربعة سفراء هم حالياً مدراء إداريون ومدير مكتبه وموظفا إداريا، مُبلغاً إياهم بأنّه قرّر رفع الحصانة عنهم، «بعد تنبيهه» لهم بالتوقف عن تسريب معلوماتٍ لوسائل الإعلام. جزم الوزير أنّ واحداً من الستة هو «المصدر»، مُسقطاً من دائرة اتهاماته بعثة لبنان في واشنطن، والموظفين الآخرين في «الخارجية»، ومقرَي رئاستَي الجمهورية ومجلس الوزراء، فضلا عن رئاسة مجلس النواب، ومستشارين لمسؤولين، وأحزاب وقوى سياسية، تصلها التقارير الدبلوماسية قبل أن تُسجل في الإدارة المركزية. فالتعيينات في الخارجية، القائمة على معيارين طائفي وحزبي، شكّلت «غطاءً» لعددٍ من الدبلوماسيين الذين اختلط عليهم الأمر، فباتوا يعتبرون أنّ مرجعيتهم هي التي يجب أن يوجهوا لها تقاريرهم. ولكنّ باسيل، وأمام اعتباره وجود حالة «عدم امتثال» لأوامره، انتقل إلى «الخطة ب»، وهي السماح لجهاز أمن الدولة إجراء التحقيقات. هو نفسه الجهاز صاحب السجل الحافل بالانتهاكات، والذي لم يعتذر بعد عن عار فضيحته في قضية المسرحي زياد عيتاني. يُدرك باسيل جيداً أنّ مستشارين لمسؤولين سياسيين، والعديد من العاملين في الشأن العام، تداولوا تقارير واشنطن الثلاثة على هواتفهم، قبل وصولها إلى وزارة الخارجية. جزءٌ من «الاستعراض البوليسي» الذي سمح به، هدفه التعتيم على المُسرِّب الرئيسي، وعلى حالة «الفلتان» التي تعيث بالسلك الدبلوماسي.
لجأ باسيل إلى خيار لم يسبقه إليه أحد. يُمكن المقارنة مثلاً مع التحقيقات في ملفّ «الفساد القضائي». رغم حساسية و«خطورة» الموضوع، إلا أنّ التحقيقات لم تخرج من تحت جناحَي هيئة التفتيش القضائي، ولم يُسمح لجهاز أمني «بالتطفل» على قاضٍ. يُبرّر الأمر بأنها تقارير «تمسّ هيبة الدولة»، وتكشف «أسراراً» لها علاقة بالأمن القومي. لكنّ «الاجتياح العسكري في بسترس» أتى استباقاً لأي تحقيق، وترهيبياً لدبلوماسيين من دون وجود دليل واحدٌ ضدهم. هل يستحق الموضوع هكذا إجراءات؟ خاصة أنّها ليست المرة الأولى التي تُسرّب فيها محاضر دبلوماسية، بصرف النظر عن كيفية نشرها، ولم يسبق أن اتُخذ أي إجراء، حتى بحالة دبلوماسيين كان يُعلم أنّهم يُحولون تقاريرهم إلى مواد صحافية؟ يُحاول مستشارون لباسيل «تسخيف» ما حصل، واعتباره أمراً «عادياً»، لاعتبارهم أنّ التسريبات «تضر بصورة الدولة ويجب أن تتوقف». يقولون إنّهم «اكتشفوا» (لا نعرف كيف) أنّ المُسرب من داخل الإدارة المركزية، و«استلم أمن الدولة التحقيقات للوصول إلى نتيجة وتأكيد على جدية الوزير». إذا كان الفاعل معروفاً، لماذا لم تتم التحقيقات إدارياً؟ «لنكن واقعيين التحقيقات الداخلية لن تصل إلى نتيجة، لأنّ الدبلوماسيين أصدقاء».
مُنع الدبلوماسيون من دخول الحمام والذهاب إلى سياراتهم، من دون مرافقة مسلحة
المُستغرب أنّ وزير الخارجية كان قد كلّف الأمين العام للوزارة القيام بتحقيقات داخلية حول من سرّب التقارير الثلاثة. عوض أن يُستكمل المسار بالانتقال إلى التفتيش المركزي، ومن ثمّ الادعاء على «المُتهم» أمام القضاء، جرت الاستعانة بأمن الدولة. حوّل عناصره غرفة المراسم وغرفة الصحافة وقبوا قديما في قصر بسترس، إلى غرف تحقيق. ستة منهم، وُضعوا في إحدى القاعات، وكانوا يُستدعون الواحد تلو الآخر للاستماع إلى شهاداتهم، في حين سُمح للامين العام بالعودة الى مكتبه وجالسه هناك اللواء صليبا الذي كلف ضباطا بالتحقيق مع موظفي فئة اولى. صودرت الأجهزة الخليوية للدبلوماسيين الستة والموظف الإداري، ومنعوا من دخول الحمام أو الذهاب إلى سياراتهم لتناول أغراض ما، من دون مرافقة أمنية مسلحة. على مدى 11 ساعة، امتدت التحقيقات، قبل أن يُسمح للدبلوماسيين بمغادرة الوزارة، قرابة الساعة 11 من ليل الاثنين، من دون تسليمهم هواتفهم. يوم أمس، وصل الدبلوماسيون الستة والموظف الإداري إلى وزارة الخارجية، ليُداوموا كالمعتاد. لم يتم التحقيق معهم، كما أنّهم لم يحصلوا على هواتفهم، التي كان يبحث فيها عناصر أمن الدولة، في تعدّ صريح على خصوصية موظفين من الفئة الأولى.
التطورات داخل «الخارجية»، أثارت بلبلة وموجة اعتراض بين الدبلوماسيين. يقول رئيس إحدى البعثات الخارجية إنّه «لو كان الوزير جدّيا بإجراء تحقيق، لكان كلّف التفتيش الإداري، وتمّ الأمر بهدوء. ولكن الأرجح أنّه أراد إحداث صدمة، لترهيب الدبلوماسيين من عدم التسريب مُستقبلاً، وإيصال رسالة بأنّه غير مسؤول عن التسريبات، واستغلال الحدث لمعاقبة زملاء تربطه بهم علاقة سيئة». من جهته، يصف وزير خارجية سابق ما حصل «بالسابقة الخطيرة. يوجد سلك أجنبي في البلد، يُراقب ما يحصل. هل فكّر بردة الفعل التي ستنتج؟». يقول إنّ من حُقِق معهم، «سفراء حين يرسلون بمهمات خارجية يحملون معهم كتاب تعيينهم وفيه إشارة إلى حيازتهم ثقة رئيس الجمهورية. غير مقبول التعرض لهم بهذه الطريقة العلنية». فتح الوزارة أمام جهاز أمني «فيه إهانة لكرامة سلكٍ بأكمله، بدأ يُعبّر عن امتعاضه مما حصل. قد يكون هناك مُتهم واحد، ولكن البقية أبرياء، جرى التعرض لهم بنفس الأسلوب. الخروقات تُعالج بسرية وبإجراءات مسلكية، وليس بالاستعانة بجهة أمنية». ويعتبر الوزير السابق بأنّ «تداعيات ما حصل لن تتوقف عن التفاقم؟.