تدهورت الأوضاع في لبنان بوتيرة أسرع مما كان متوقعاً، وقد يكون سبب ذلك التراجع الهائل في قدرات لبنان على الحماية الذاتية، نتيجة سلسلة الانهيارات التي عصفت به منذ اكثر من ثلاث سنوات، وجعلته فاقداً للمناعة امام الصدمات على أنواعها.
وحتى مؤسسة القضاء شلّعتها النزاعات الشرسة، وهو ما لم يحصل في تاريخ الجسم القضائي منذ نشأته وحتى في عزّ أهوال الحرب اللبنانية. وكان من المنطقي ان يتفكّك هذا الجسم الذي يفترض ان يكون منيعاً، نتيجة منطق الزبائنية السياسية الذي زرعته الطبقة السياسية مع كل إصدار للتشكيلات القضائية.
ذلك انّ منطق المحاصصة والمحسوبيات وزرع الأزلام في المواقع القضائية الحساسة لخدمة هذا الزعيم او ذاك، ولو على حساب هيبة القضاء، وهذا ما شجع على استشراء الفساد. كل هذا الواقع نخر الجسم القضائي وأدّى إلى اهترائه ودفعه إلى التحلّل. لكن لكي لا نضيع البوصلة، فإنّ النزاع الأساسي يبقى في السياسة، وسط نظرية رائجة مفادها بأنّ دفع لبنان في اتجاه الهاوية قد يكون السبيل الوحيد المتبقي لإعادة إنقاذه.
في الكواليس الديبلوماسية همس مفاده أنّ النزاع الحاصل فعلاً على الساحة اللبنانية من خلال ملفات الرئاسة والقضاء ومصرف لبنان، هو فعلياً بين العواصم الغربية التي تسعى لإضعاف نفوذ «حزب الله» داخل الدولة، وبين قيادة «الحزب» التي تريد تعزيز حضورها داخل الدولة اللبنانية وتوسيعه وتكريسه كثمن للمفاعيل السياسية للترسيم البحري مع اسرائيل. ففي آب 2020 وعقب الانفجارـ الزلزال الذي حصل في مرفأ بيروت، وأدّى إلى تدمير اجزاء واسعة من العاصمة، حضر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى بيروت في زيارة سريعة ومفاجئة وممهدة لزيارة ثانية في شهر ايلول والتي حملت معها طرحاً سياسياً.
وفي الزيارة الثانية تمتم ماكرون بأفكار مبهمة، كمثل الدعوة إلى «عقد اجتماعي جديد»، وهو ما انعكس ايجاباً على وفد «حزب الله». وإلى جانب ذلك تحدث بلغة حازمة للذهاب إلى حكومة جديدة، واضعاً مهلة زمنية محدّدة. وأُدرج كل ذلك تحت عنوان «مبادرة ماكرون». لكن هذه المبادرة أُجهضت سريعاً، فلا الحكومة تشكّلت كما طلب الرئيس الفرنسي، وبقيت دعوته حول العقد الاجتماعي الجديد مبهمة ومن دون ملحقات تفصيلية. قيل يومها انّ واشنطن ساهمت في ضرب مبادرة ماكرون استناداً إلى العقوبات التي صدرت في حق الوزيرين السابقين علي حسن خليل القريب لا بل اللصيق برئيس مجلس النواب نبيه بري، ويوسف فنيانوس المحسوب على رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، والذي يتمتع في الوقت نفسه بعلاقة ممتازة مع «حزب الله».
إثر ذلك استقال مصطفى اديب من مهمّة تأليف الحكومة بعد اصطدامه بإصرار»الثنائي الشيعي» على حيازة وزارة المال. وتبدّدت التحذيرات الفرنسية، والتي تناوب على إطلاقها الرئيس الفرنسي ووزير خارجيته، وبدا وكأنّ باريس لا تمتلك وحدها القدرة اللازمة والمطلوبة لإنجاح مبادرتها.
ويُروى انّه خلال اللقاء التوديعي الذي اقامه «حزب الله» لمناسبة انتهاء مهمة السفير الفرنسي الأسبق برونو فوشيه، حصل عتاب متبادل بين مسؤولي «حزب الله» والسفير الفرنسي، حول تعثر المبادرة الفرنسية. وتردّد انّ فوشيه قال يومها: «معظم دول العالم تنظر إلى «حزب الله» في شكل سلبي وسيئ، بعكس فرنسا التي تتمسك بإقامة علاقات مباشرة معكم، وهو ما سبّب لها انتقادات عدة. لذلك كان من الأجدر بقيادة حزبكم تجاوز مطلب وزارة المال، وهو ما يلعب لمصلحة العلاقة القائمة بيننا».
ومنذ تلك الفترة، والتي شهدت سقوط مبادرة ماكرون، حصل نقاش واسع ومراجعة لما حصل، وبعد ان استقر رأي الرئيس الفرنسي على عدم وضع الملف اللبناني جانباً، بخلاف نصائح بعض الذين عملوا سابقاً على هذا الملف ايام الرئيس السابق فرنسوا ميتران، كون لبنان هو آخر موطئ قدم لفرنسا في الشرق الاوسط. وتمّت إعادة تقييم ما حصل واستعراض نقاط الضعف التي أدّت إلى الفشل. وكان واضحاً انّ سطوة واشنطن أقوى بكثير في لبنان والشرق الاوسط، كونها تمتلك العديد من عناصر القوة ومنها العقوبات، وهو ما لم تنجح باريس في تطبيقها، على الرغم من التلويح بها مرات عدة.
لذلك، عمدت الإدارة الفرنسية إلى اعادة صوغ اطار يُلزم الاتحاد الاوروبي بتبنّي سياسة العقوبات. فعملت داخل المجموعة الاوروبية توصلاً لاتفاق في شأن وضع نظام خاص للعقوبات في لبنان يتمحور حول الفساد. لكن الخطوة الأهم كانت بإنضاج هذا المشروع بالتنسيق مع واشنطن، خصوصاً انّ التراجع عن إصدار العقوبات التي لوّح بها ماكرون وايف لودريان، ادّى إلى نتائج عكسية، وبالتالي طمأنة الطبقة السياسية اللبنانية إلى أن ليس هنالك ما تخشاه من الجانب الفرنسي. لا بل اكثر، فهنالك من اعتبر انّ منظومة الفساد في لبنان تتشارك مع فاسدين نافذين في فرنسا، ما شكّل عائقاً كبيراً أمام حرية حركة الإدارة الفرنسية. لكن الرئيس الفرنسي المتمسك بأهمية ما يمثله لبنان بالنسبة إلى ما تبقّى من النفوذ الفرنسي في الشرق الاوسط، وضع تصوراً كاملاً وعرضه على الرئيس الاميركي جو بايدن خلال لقائهما في الاول من كانون الاول الماضي، بعد نجاح بايدن في الخروج بأقل الاضرار من الانتخابات النصفية. ولأنّ ماكرون اكتشف أنّ العقوبات في حاجة إلى ملف قوي، كان التركيز على ملفين قضائيين اصابا لبنان في الصميم: ملف الفساد وغسيل الاموال وملف انفجار مرفأ بيروت. وبالتالي فإنّ قمة واشنطن بين الرئيسين الاميركي والفرنسي قد تكون ارتأت انّ انطلاق سنة 2023 لا بدّ ان يكون مختلفاً في لبنان. وهذا ما يفسّر إلى حدّ بعيد الكلام الذي أدلت به مساعدة وزير الخارجية الاميركية بربارة ليف حول السيناريو الصعب الذي ينتظر لبنان.
ومع انطلاق السنة الجديدة، تحرّك وفد قضائي مؤلف من ثلاث دول اوروبية هي فرنسا والمانيا ولوكسمبورغ في اتجاه مصرف لبنان، وهو يحمل ملفات دقيقة وواضحة، حيث يتردّد انّ الجولة الثانية له ستكون عاصفة وستحمل مفاجآت وقرارات مهمّة. كما تحّرك وفد ثانٍ هو فرنسي، في اتجاه قاضي التحقيق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت، في اعتبار انّ هنالك ضحايا يحملون الجنسية الفرنسية.
وجاءت الإشارة الاميركية الثانية سريعاً مع موقف وزارة الخارجية بدعم استكمال تحقيقات شفافة وسريعة حول انفجار مرفأ بيروت، وانّه يجب محاسبة المسؤولين، وكذلك فعلت السفارة الاميركية في بيروت.
لكن هذا الكباش السياسي العنيف الحاصل خلف ملف تفجير مرفأ بيروت ادّى إلى انشطار الجسم القضائي المهترئ اصلاً. واستتباعاً، فإنّه لا بدّ من انتظار النقلة التالية في لعبة الشطرنج الحاصلة. ولذلك، لا بدّ من طرح الاسئلة التالية:
1- هل ستظهر العقوبات الاوروبية قريباً ووفق أي توقيت؟ ذلك انّ ثمة وجهتي نظر، الاولى تقول بوجوب إحداث ردّ قاسٍ سريعاً على مستوى ما يجري. اما الثانية فتتحدث عن وجوب انتظار توقيت اكثر ملاءمة.
2- ما المفاجآت التي سيحملها الوفد القضائي الاوروبي في جولته الثانية، والتي ستشهد استجوابات قد تصل إلى 17 شخصاً بمن فيهم حاكم مصرف لبنان؟
3- هل ستستبق الطبقة السياسية في لبنان والمعنية بحماية حاكم مصرف لبنان، الخطوة الاوروبية بخطوة قضائية لبنانية تؤمّن له حاجز حماية من الوفد الاوروبي؟
4- ما هو المسار السياسي الذي يجري رسمه للبنان على وقع الانهيار السريع والدراماتيكي للعملة اللبنانية وانفتاح آفاق الشارع على وسعها امام الفوضى.
هذا على الرغم من انّ موسكو أبلغت إلى من يعنيهم الامر وبحزم، أنّ دفع الاوضاع في لبنان إلى الفوضى الشاملة سيعرّض مصالحها في سوريا للخطر، وهو ما لن تقبل به. أضف إلى ذلك، انّها تنتظر تأمين المناخ اللازم لإنجاح المصالحة السورية ـ التركية على مستوى الرئيسين خلال الاسابيع القليلة المقبلة. وهي تدرك انّ هذه الخطوة ستثير حفيظة ايران، لكن الاوضاع الاقتصادية والمعيشية المزرية التي تسود بعض المناطق السورية لا تحتمل المراوغة والمناورة.
وهنا يبقى السؤال الاخير حول الموقف الذي قد يصدر عن مجلس الامن الدولي في اجتماعه الدوري حول لبنان في آذار المقبل، حيث سيتضمن جدول الاعمال حادثة العاقبية ونتائج التحقيقات وايضاً التحقيقات حول انفجار مرفأ بيروت والأزمة السياسية الحادة حول انتخابات الرئاسة.
هنالك من هو مقتنع بأنّ تدهور الاوضاع كما هو حاصل سيختصر الطريق وصولاً إلى وصاية دولية.