Site icon IMLebanon

هدنة بين معركتين

 

تروي الكواليس الديبلوماسية انّ عدد طلبات الهجرة الجاري تقديمها من قبل عائلات لبنانية الى دول أجنبية عبر سفاراتها في لبنان، وخصوصاً كندا واستراليا، بلغ أعداداً قياسية. والواضح انّ للعائلات المسيحية حصة كبيرة بسبب الانهيار الذي يعيشه الاقتصاد اللبناني، والأهم بسبب فقدان الامل بالمستقبل. ربما لأجل ذلك تحرّك الفاتيكان مُعرباً عن قلقه العميق، حيث تضمّن البيان الذي جاء في ختام لقاء وزير الخارجية اللبنانية بنظيره الفاتيكاني دعوة بيروت لفتح أبواب الحوار مع واشنطن، وهي لغة لم تعهدها البيانات الرسمية للفاتيكان.

وفيما تردد انّ كلام المسؤول الفاتيكاني خلال اللقاء كان أكثر وضوحاً وتفصيلاً، جاء كلام البطريرك الماروني، والذي سبق اللقاء، أوضَح في تعابيره ولا شك انّ ثمة تناغماً بين الكرسي الرسولي وبكركي خصوصاً في هذه المرحلة. والى جانب الفاتيكان كانت فرنسا تُبدي قلقها البالغ جرّاء الوضع في لبنان، وفشل السلطة اللبنانية في القيام بدورها ومسؤولياتها. وتَقصّد وزير الخارجية الفرنسية الحديث عن لبنان بلغة غلبت عليها العاطفة وهو يحذّر من الخطر الذي بات يتهدده، والخشية من انهيار ركائز الدولة اللبنانية.

 

جان إيف لو دريان، والذي يتحضّر لزيارة بيروت نهاية الاسبوع بعد زيارة سريعة لبغداد، ناشَد السلطات اللبنانية بعبارات يغلب عليها الأسف قائلاً: «ساعِدونا على مساعدتكم، فلبنان مهدد جدياً بالانهيار».

 

وسيكرر لودريان في بيروت ما طالبت وتطالب به دائماً باريس: «نريد من السلطات اللبنانية إصلاحات سريعة، طالَبنا بها دائماً ووعدتنا بها السلطات اللبنانية في مؤتمر سيدر، لأنها مفتاح المساعدات التي يحتاج اليها لبنان بسرعة».

 

فباريس تدرك أنّ الصراع القاسي الدائر بين واشنطن وطهران في الشرق الاوسط يضع لبنان ككيان قائم في دائرة الخطر.

 

وهي نصحت واشنطن دائماً بالتمييز بين الضغط على «حزب الله»، وبين مخاطر ترك الدولة اللبنانية تنهار بالكامل. وألَحّت على السلطة اللبنانية بالبدء في إقرار إصلاحات قد تسمح بمَد لبنان ببعض «الاوكسيجين» وتمنعه من الاختناق. وحدّدت قطاع الكهرباء الذي «يفتك» بحوالى ملياري دولار سنوياً من الخزينة اللبنانية، كأولوية مطلقة للبدء بمشوار الاصلاح.

 

وعلى الرغم من المحاصصة السياسية التي غلبت على تعيينات أعضاء مجلس ادارة كهرباء لبنان والتي ما يزال ينقصها تعيين الرئيس، إلّا أنّ وفد صندوق النقد الدولي اشار الى انه ما يزال ينتظر تعيينات الهيئة الناظمة المعطّلة منذ زمن بعيد جداً.

 

وخلال الايام الماضية جرى التفاهم على ان تحصل هذه التعيينات في الجلسة المقبلة لمجلس الوزراء، شرط ان تتزامن مع الطلب من مجلس النواب مناقشة القانون الذي يحدّد مهام الهيئة الناظمة والعمل على إدخال تعديلات عليه وفق ما اشترط النائب جبران باسيل. لكن على ما يبدو، فإنّ النقاش حول هذه التعديلات سيشهد أجواء حامية قد تؤدي في نهاية المطاف الى عدم إقرارها، بسبب رفض العديد من الكتل النيابية إفراغ عمل الهيئة من مضمونه. ووفق مصدر في الوفد اللبناني، فإنّ وزير المال غازي وزني اتصل فور حصول تعيينات مجلس ادارة كهرباء لبنان برئيس وفد الصندوق، وأبلغه أنّ تعيينات اعضاء الهيئة الناظمة ستحصل في الاسبوع المقبل. وكان جواب رئيس الوفد أنه جاهز لتحديد موعد لجلسة جديدة مخصّصة لموضوع الكهرباء في اليوم التالي.

 

والواقع انّ لصندوق النقد اطلاعاً كاملاً وشاملاً ودقيقاً بكل تفاصيل الملفات المطروحة وايضاً متابعة يومية لما يحصل في لبنان، وهو ما أدهَش الوفد اللبناني. وبالتالي، فإنّ «التَشاطر» الذي كان يُبديه البعض امام وفد الصندوق كان يصطدم بالمعطيات الوافية والمفصّلة الموجودة في حوزته. والسعي الفرنسي للتنبّه من مخاطر سقوط ركائز الدولة اللبنانية، تزامَن مع ظهور ليونة اميركية سمحت بفتح ابواب التفاهم مع العراق حول النفط. لكن البعض في لبنان فَسّر خطأ هذه الليونة المستجدة، فعدا انها سمحت بفتح الباب امام استفادة لبنان من «الاوكسيجين النفطي» ما يمنع عنه الاختناق، فإنها ايضاً شهدت إعادة طرح الطلب الاميركية حيال ترسيم الحدود البرية والبحرية الجنوبية للبنان.

 

المعلومات تقول إنّ السفيرة الاميركية خرجت بانطباع ايجابي بعد لقائها برئيس الحكومة حسان دياب، فهي طرحت وناقشت العديد من النقاط، وهي اعتبرت انّ لقاءها الاستكشافي كان ايجابياً.

 

وفيما سيتولى لودريان، خلال وجوده في بيروت، تقديم بعض المساعدات المُلحة للمجتمع اللبناني، كمثل تقديم عشرين مليون يورو للمدارس اللبنانية التي تحظى ببرامج تعليمية نظيرة لبرامج المدارس الفرنسية، فإنّ السفارة الاميركية باشَرت بدورها التحضير لرزمة مساعدات تطال المدارس وخصوصاً الجامعات التي تحظى ببرامج تعليمية نظيرة للبرامج الاميركية، إضافة الى مساعدات اقتصادية مدروسة. وبخلاف التفسيرات المُتسرّعة للبعض، فإنّ الهدف هو الحَد قدر الامكان من التأثيرات الكارثية لحرب الضغوط القائمة بين واشنطن وطهران على المجتمعات اللبنانية، وليس إعلان انتهاء الحرب وربما لاحقاً ستضغط واشنطن اكثر في موضوع إقرار خط هوف مع بعض التعديلات، كونه سيسمح باستخراج الغاز من المياه اللبنانية، ما سيعطي دفعاً معنوياً للاقتصاد اللبناني المُنهار، خصوصاً بعد الصدمة الصعبة التي تلقاها لبنان بسبب نتائج الحفر في البلوك رقم 4، والتي شكّلت نكسة واضحة.

 

وبخلاف الانطباع السائد أيضاً، فإنّ المشروع الاميركي المطروح حيال لبنان يشكل احدى نقاط التفاهم بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، ما يعني انّ الانتخابات الرئاسية الاميركية لن توثر به.

 

لكنّ نقطة الضعف الأبرز التي يعانيها لبنان، هي ضعف السلطة اللبنانية وارتباكها وعدم امتلاكها لحيوية المبادرة.

 

فمثلاً سيتزاحَم المسؤولون غداً لاستثمار موضوع النفط العراقي في خانة «انجازاتهم» الشخصية، وذلك بدلاً من استغلال الفرصة وتنشيط قطاع التصدير الى العراق.

 

وفي نظرة سريعة فإنّ حركة التبادل التجاري بين لبنان والعراق هي تقريباً الوحيدة التي هي لصالح لبنان، ولو أنّ حجمها محدود، ما يشجّع بالتأكيد على توسيع حجمها. فعلى سبيل المثال سجّلت صادرات لبنان الى العراق في العام 2015 حوالى 225 مليون دولار في مقابل استيراد بحوالى 3 ملايين دولار ونصف المليون فقط. ألا يعني ذلك انّ الاسواق العراقية قادرة على استيراد سلع اكثر بكثير مما هو حاصل اليوم؟

 

لكن مبعث القلق الاضافي هو في الموضوع الامني، خصوصاً انّ الترجيحات تشير الى استئناف قريب لحرب الضغوط. لا بل انّ المعلومات تتحدث عن إعلان واشنطن لائحة عقوبات قريبة ستطال العديد من الاشخاص في موضوع قانون ماغنيتسكي بتهم الفساد، أضف الى ذلك الاعلان عن قرار المحكمة الدولية في ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

 

واستمرار حرب الضغوط اضافة الى الواقع الاقتصادي المزري للبنانيين، يدفعان للقلق حيال الاستقرار الامني. ففي إحصاء للدولة بخصوص المعلومات حول المقارنة ما بين المرحلة الممتدة من شهر كانون الثاني وحتى شهر أيار من عامي 2019 و2020، يتبين انّ حوادث السرقة للافراد والمنازل ازدادت بنسبة 22 %، وحوادث سرقة السيارات ارتفعت بنسبة 58 %.

 

امّا الاكثر خطورة فهي جرائم القتل التي ارتفعت بنسبة 124 %.

 

وحال الفقر، اضافة الى «ثورة» الناس على السلطة ومكوناتها، وحال الاحباط السياسي، وارتفاع نسبة «الهاربين» من جحيم المعارك في سوريا، كل ذلك يؤدي الى خلق بيئة حاضنة مثالية لنشاط المجموعات الارهابية، فهي باتت قادرة على تجنيد إرهابيين بأموال ضئيلة بعد غسل افكارهم بمجهود أقل.

 

حتى الآن لم يظهر انّ ثمة مشروعاً يجري التحضير له لتنفيذه على الساحة اللبنانية، لكن تطور الامور قد يفتح الباب امام اختراقات منفردة لهذه التنظيمات، والتي باشرت تركيزها مؤخراً على عناصر الجيش اللبناني.

 

كذلك، فإنّ تزايد حال الفقر لدى اللبنانيين وارتفاع نسَب البطالة سيدفعان الى زيادة مستوى السلب وجرائم الخطف والقتل.

 

وخلال التظاهرات الاخيرة ظهر فلسطينيون وسوريون في بعضها لكن هذه المشاركة بقيت فردية ومن دون مشروع تنظيمي عريض حتى الآن.

 

ووفق كل ما سبق فإنّ السؤال المطروح هو، انّ الجيش، الذي نجح حتى الآن في الحفاظ على الاستقرار وتجنيب لبنان الانطلاق نحو مخاطر الفوضى الشاملة، هل هو محصّن أمام الانهيار الاقتصادي المتوقع والذي يصيب عائلات الجنود؟ وبالتالي الاستمرار بفاعليته وقدرته على المحافظة على الاستقرار العام رغم ارتفاع عوامل الخطر؟

 

في الزيارة الاخيرة لقائد المنطقة الوسطى في الجيش الاميركي الجنرال ماكينزي، كان كلام واضح حول التقدير الكبير للولايات المتحدة الاميركية للجيش اللبناني، وهو كلام خصّص فقط للمؤسسة العسكرية. ومعه جاءت الرسالة بأنه لا يجوز ان تتأثر معنويات الجيش اللبناني.

 

صحيح انّ قيادة الجيش اضطرت الى وقف اللحوم عن طعام الجنود بسبب انخفاض القدرة الشرائية للعملة الوطنية، الّا انّ المشكلة الأصعب كانت في تأمين عائلات الجنود، حيث جرى ترتيب اسعار مخفضة للسلع الغذائية لتلك العائلات.

 

وتتجه واشنطن الى تأمين قطع غيار وذخائر ومعدات ملحّة لم يعد باستطاعة الجيش تأمينها من ميزانيته، اضافة الى حَثّ بعض الدول العربية الغنية لتقديم مساعدات مالية الى الجيش اللبناني، تسمح لجنوده بمتابعة مهامهم من دون القلق على إطعام عائلاتهم.