لم يكن التحذير الذي أطلقه السفير البريطاني طوم فليتشر الى اللبنانيين بالتقاط اللحظة المناسبة لإنهاء الإستحقاقات اللبنانية الداخلية وانتخاب رئيس للجمهورية مجرَّد تحذير فحسب، إنّما سعى لإفهام اللبنانيين بلغة غير ديبلوماسية أنّ الوقت مناسب لإنهاء الشغور الرئاسي لمواجهة الإستحقاقات المقبلة على لبنان والمنطقة بدولة كاملة الأوصاف قبل فوات الأوان.
تتبادل الأوساط الديبلوماسية، خصوصاً الأوروبيّة منها، معلومات دقيقة وخطيرة عن تطوّرات الوضع في لبنان، ولا سيما ما يتّصل بالإستحقاق الرئاسي وانعكاساته السلبية التي تجاوزت كلّ الخطوط الحمر على المستويات السياسية والإدارية والإقتصادية باستثناء الأمنية منها، باعتبار أنّ القرار الدولي بالإبقاء على المظلّة الدولية الحامية للبنان ما زال قائماً طالما أنّ خللاً ما لم يُصب الستاتيكو على مستوى القوى الخارجية المتحكّمة بميزان القوى في لبنان.
وتعتقد المراجع الديبلوماسية أنّ التفاهم السعودي – الإيراني الذي أبعَد الساحة اللبنانية عن التردّدات السلبية للأزمة السورية ما زال قائماً، وهو ما ترجَمته القوى المتأثرة بهما حواراً في عين التينة على رغم المصاعب والمطبات التي تتحكّم به بعدما تجاهلا معاً كلّ الملفات الخلافية التي تعوق أيّ حوار من هذا النوع.
لكنّ المراجع عينها ترى أنّ أيّ خلل في العلاقات القائمة على خط طهران – الرياض بحدّه الأدنى لحماية الساحة الداخلية يمكن أن يُفجّر الوضع في البلد.
وقد استندت في مخاوفها من تكرار التجربة اليمنية، حيث خرَج الإيرانيون عن التفاهمات المسبَقة التي ترجَمتها «وثيقة المصالحة الوطنية» وأقرَّتها القوى اليمنية برعاية الأمم المتحدة، وأعطَت الضوء الأخضر للحوثيين الذين رتّبوا تحالفات داخلية لم تكن مألوفة بعدما نجحوا في ضمّ القوى التي يديرها الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح الى صفوفهم، ما سمَح لهم بالتحكم بالسلطة على المستويات العسكرية والرئاسية، فحاصروا الرئيس الإنتقالي الى أن قضموا السلطة موقعاً بعد موقع ودخلوا القصر الجمهوري وقلبوا السلطة.
يُشبّه الديبلوماسيون الأوروبيون التجربة اليمنية بالأزمة اللبنانية ويخشون تكرارها في لبنان. ويرى كثيرون منهم أنّ «انصار الله» اليمنيين هم «حزب الله» في لبنان وحلفاؤهم الجدد في اليمن لهم ما يُشبههم في لبنان، منهم مَن أراد التمسك بالسلطة ومنهم مَن يسعى اليها ولذلك لهم أكثر من إسم في لبنان.
وعليه فإنّ التحذيرات الديبلوماسية هدفت الى التأكيد للقادة اللبنانيين أنّ انشغال العالم بالملفات الكبرى في المنطقة، وضع ملف لبنان في أدنى الإهتمامات وعلى اللبنانيين الإفادة وإجراء تسوية داخلية تؤدي الى انتخاب رئيس ليستعيدوا بانتخابه موقعهم بين الأمم.
فإنتخاب الرئيس سيُحيي الحركة وستنتظم العلاقة بين المؤسسات الدستورية ويتوقّف النقاش في جنس الملائكة وصلاحيات الحكومة، وسيعود المجلس النيابي ليقوم بالدور المنوط به بعدما تراكمت القوانين والملفات الحيوية في أدراجه.
والأخطر، يقول الديبلوماسيون إنّ الفراغ في رأس السلطة في مرحلة تعيشها المنطقة ودول الجوار السوري تحديداً، هي الأخطر على لبنان، ومتى حان توزيع المغانم فور الإتفاق على صيغة لتقاسم او تغيير السلطة في سوريا، ستهتزّ المنطقة وما لم يكن لبنان كدولة قائماً قد تضيع حقوقه أو تُهضم.
ويحذِّرون من أنّ تورّط اللبنانيين في الأزمة السورية، وتحديداً «حزب الله»، لن تنتهي آثاره مع نهاية الأزمة أياً كان الفائز فيها، فقد أسّسوا لشرخ بين بعض اللبنانيين واكثرية الشعب السوري قد يدوم مئات السنوات ومَن يعرف ما شهدته سوريا من تغييرات ديموغرافية ومدنية يمكنه التقدير من اليوم ما ستكون عليه العلاقات بين الشعبين متى تأسّست أسبابها على بحور الدم.
ولذلك كله تكتسب التحذيرات الديبلوماسية أهمية بالغة الخطورة ولم تعد تقف عند تحميل المسؤولية للمسيحيين فحسب. فهم يدركون أنّ بعضهم بات حجر رحى في المواجهة السنّية – الشيعية في المنطقة وما عليهم سوى السعي لوقف حرب الإستنزاف التي يدفعون ثمنها وحدهم. فالإمتدادات الديموغرافية والمالية والسياسية والطائفية للمسلمين في المنطقة تجعل المسيحيين في موقع لا يُحسدون عليه.
فلماذا يتمادون في غيّهم ولا يحسمون مسائل كثيرة، ويضعون شركاءهم المسلمين امام مسؤوليات الحفاظ على كيان لبنان وتركيبته التعدّدية. فهل يتعظون أم أنّهم قبلوا ترك المجال مفتوحاً أمام إمكان تكرار التجربة اليمنيّة ليدفعوا الثمن الأغلى، ولمرة واحدة لا ينفع بعدها الندم.