لم يظهر بعد لعدد من المراقبين أنّ هناك جهداً حقيقياً يُبذل لإستيلاد قانون جديد للإنتخاب. فكلّ الوقائع تشير الى أنّ ترك المسؤولية على الخبراء وشركات الإحصاء لن يؤدّي الى قانون عادل ومتوازن. فما هو ظاهر من سعي الى قانون جديد يُحدّد كيف يختار النواب ناخبيهم بدلاً من أن يختار الناخبون نوابهم، وكل ذلك بهدف تكوين أكثريات نيابية تلغي كلّ أشكال التعددية. فما الذي يقود الى هذا التشاؤم؟
لا يخفي عددٌ من الديبلوماسيين حجم قلقهم عند استعراض الجهود المبذولة للتوصل الى قانون انتخاب جديد عادل ومتوازن يوفر المعايير الموحَّدة التي يمكن لجميع الراغبين بدخول السباق الى ساحة النجمة خوضها في ظروف هي الفضلى.
حتى إنّ بعضهم لا يرى أنّ هناك إمكانية للتوصل الى مثل هذا القانون بدليل أنّ ممثلي الإتحاد الأوروبي الذين يراقبون كلّ المشاريع المتداوَلة وهم مطلعون على كثير من المعطيات التي يغلفها السياسيون ولا يبوحون بها للرأي العام اللبناني، طالبوا وزير الداخلية نهاد المشنوق صراحة بالدعوة الى الإنتخابات وفق القانون النافذ في الموعد الدستوري المحدّد من دون انتظار أيّ قانون جديد أيّاً كانت الظروف وردات الفعل التي يمكن أن تنتهي اليها هذه الدعوة.
ربّ قائل، إنّ هؤلاء الديبلوماسيين لم يفهموا بعد خلفيات موقف رئيس الجمهورية من موضوع القانون الجديد وتمنّعه عن توقيع مرسومي تشكيل هيئة الإشراف على الإنتخابات ودعوة الهيئات الناخبة حتى الأمس القريب.
لكنّ العارفين بكثير من التفاصيل المملّة يقولون «إنّ هؤلاء الديبلوماسيين يعرفون ذلك وهم يتداولون في كواليسهم مضمون دراسات وقراءات قانونية ودستورية تؤدي الى القول إنّ رئيس الجمهورية «لا يتعاطى مع ما هو مطلوب بواقعية»، وإنه «يعتمد على تسميات لا تتطابق وواقع الأمور وما يقول به الدستور والقوانين المرعية الإجراء معتبراً أنه اليوم في موقع «يمون» فيه على بقية الأطراف ويمارس صلاحيات غير مكتوبة مستنداً الى تفاهمات غامضة مع أكثر من طرف لا يمكن التثبّت منها. وهي تدفعه الى موقع مؤثّر ومتقدّم بعيداً من الصلاحيات الدستورية».
ويضيف هؤلاء العارفون: «لا يمكن لهؤلاء الديبلوماسيين التعاطي مع النظريات والوعود التي يقطعها المسؤولون وآخرها تلك التي صدرت عن لقاء جمع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة بعد آخر إجتماع لمجلس الوزراء الأربعاء الماضي، حيث تعهّدا الوصول الى قانون جديد اختلف عدد من الوزراء في تحديد المدة المقدرة لولادته، فقال أحدهم إنه «سيكون خلال عشرة ايام»، وقال آخر «قبل نهاية الشهر» من دون القدرة على إعطاء أيّ تفصيل جديد حول شكل القانون ونظامه والتقسيمات الإدارية.
وعلى هذه المعطيات جاء التحرّك الأوروبي أخيراً في اتجاه وزير الداخلية سعياً الى حضّ المسؤولين على إنجاز الإنتخابات في مواعيدها من دون النظر الى أيّ معطيات أخرى جانبية.
وربما تطوّر هذا التحرك قريباً في اتجاهات أخرى سعياً الى تصويب المسارات الدستورية التي يتمسك بها الأوروبيون ومعهم أكثر من فريق من مؤسسات المجتمع المدني والهيئات المكلّفة مراقبة ديموقراطية الإنتخابات التي تموّلها، على خلفية ما لديهم من توجّه صارم يتجاهل ما هو مطروح من نقاش انتخابي ويتطلعون الى الواقع وما يشي به من خلافات محتملة بين المؤسسات في لبنان».
ويضيف العارفون «أنّ الأوروبيين قطعوا الأمل من إمكان الوصول الى قانون جديد وهم يطالبون بانتخابات أيّاً كان قانونها ولو كان القانون النافذ اليوم، على رغم معرفتهم الدقيقة بحجم وشكل الملاحظات بحقه وهم يقدرونها.
لكنه وعلى الرغم من ذلك فإنّ همّهم الأول والأخير الحفاظ على الإستقرار المحقق في لبنان. وهم يخشون الحديث عن فراغ في السلطة التشريعية ليس لأنه أمر ممكن ولم يعد مستبعداً في بلد بقي 30 شهراً بلا رئيس للجمهورية، بل خوفاً من تردّداته السلبية على أكثر من مستوى».
وفي التفاصيل، يؤكد العارفون، «أنّ حجم مخاوف الديبلوماسيين مبني على خوفهم وقلقهم على سلامة الجوّ السياسي الملبد الذي يمكن أن ينشأ نتيجة النزاع حول شكل القانون الانتخابي وتقسيماته ونظامه، وحجم الخلافات الكبيرة التي لا تجمع فريقين متحالفين حوله حتى اليوم وهم يرصدون الأجواء الشعبية ومظاهر التوتر المذهبي نتيجة بعض المواقف الحادة لكلّ الأطراف بلا استثناء».
ولكن وعلى رغم هذه المخاوف فإنّ الديبلوماسيين الأوروبيين يخشون تجاهل اللبنانيين لكثير ممّا يسمونه «التحضيرات التمهيدية للإنتخابات». فالمهل الدستورية تمّ تجاهلها حتى الآن، بالإضافة الى تشكيل هيئة الإشراف على الإنتخابات وآليات أخرى أبرزها تلك المتصلة بتحديد سقف الإنفاق الإنتخابي والأصول الواجب اعتمادها في مراقبة هذا الإنفاق وقضايا إجرائية وإدارية أخرى لتجنّب الحديث عن تدخّل السلطة المرتقب في الإنتخابات، وخصوصاً أنّ أبرز الأطراف المتنازعة حول القانون هي من أهل السلطة.
وأنّ المواجهة القائمة والمحتملة ليست في شكلها ومضمونها بين موالاة ومعارضة، بل هي مواجهة بين أهل الحكم انفسهم وهو ما يشكل خطراً على استقرار المؤسسات والحفاظ على مبدأ الفصل بين السلطات، فلا تتداخل الأمور في ما بينها وهو أخطر ما يواجهه لبنان الآن.
ولا يخفي الديبلوماسيون قلقهم من بناء القوانين الجديدة للإنتخابات على الإحصائيات والأرقام و«البوانتاجات» التي يمكن أن يأتي بها أيّ قانون يمكن التوصل اليه من حصص لهذا الفريق أو ذاك.
وهو ما يعزّز النزاع بين الأقطاب الذين يخوض بعضهم «حرب بقاء» في وجه آخرين يخوضون «حرب إلغاء» في أكثر من اتجاه. وأسوا ما يجهد في اتجاهه المسؤولون هو السعي الى قانون يختار النواب لناخبيهم بدلاً من أن يختار الناخبون نوابهم.