يعتقد ديبلوماسي أجنبيّ مقيم في لبنان منذ فترة طويلة أنّه تعلّم من اللبنانيين مزيداً من الفنون السياسية من خلال البحث عن «المواصفات» قبل اتخاذ أيّ قرار. وكأنهم في سباقٍ دائم مع العالم لدخول «غينيس بوك»، متجاهلين أهمية أن يتوافر القرار الذي يُنتج المواصفات، فينتفي كونها مادة أولية لصناعة القرار. كيف توصّل الديبلوماسي الى هذه المعادلة؟
يقلب الديبلوماسي أوراقه ومجموعة من التقارير السياسية والإقتصادية والمالية التي يتقنها الملحقون في دوائر سفارته الناشطة على كل المستويات، ويتوقف بابتسامة لا تخلو من الإستغراب والسخرية أحياناً وهو يتحدّث عن حياة الترف السياسية في لبنان على رغم حجم الأزمات التي يعانيها لبنان وتضعه امام جبل من الإستحقاقات الداهمة الأمنية منها والإقتصادية والإجتماعية، في ظلّ شلل يتسلّل الى المؤسسات الدستورية امتدّ من الشغور في قصر بعبدا الى ساحة النجمة، وكاد ينهي جولته في السراي لولا الصحوة التي عبّرت عنها الحكومة أمس الأول.
ويضيف الديبلوماسي: يتقن السياسيون اللبنانيون فنون عبور الإستحقاقات والمهل الدستورية بشكلٍ سلِس ومعها تضيع الفرص واحدةً تلوَ الأخرى من دون أن يرفّ لهم جفن. والأخطر من ذلك أنّ هناك مَن يوفر التفسيرات والمخارج القانونية التي توائم مواقفهم وتبرّرها، فيحتفظون جراء ذلك بجمهورهم الذي يعكس بسهولة وشفافية انقساماتهم وإصطفافاتهم في ظلّ غياب ايّ شكل من أشكال المحسابة.
ويلفت الديبلوماسي إلى أنّ مَن يراقب التطورات اللبنانية يرى أنّ كلمة المواصفات هي الأكثر رواجاً في تصريحات السياسيين والحزبيين والمسؤولين الرسميين، وسط فقدان القرار الذي يمكن أن يعبر بالبلاد من حال الى حال.
ويقول: قبل أن تتألف حكومة الرئيس تمام سلام تركزت المناقشات لفترة طويلة على المواصفات المكتملة في المجلس النيابي وفقدانها في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي كانت تصرف الأعمال. فأمضيتم أحد عشر شهراً لم يلتئم فيها مجلس النواب للبتّ بقوانين مهمّة لأنّ مواصفات الحكومة غير مكتملة في مواجهة مجلس نيابي مكتمل الأوصاف.
وفي الحوار بين تيار «المستقبل» و«حزب الله»، أمضى المتحاورون جلستين او ثلاث على الأقل من اصل الجلسات الخمس الأولى للبحث في مواصفات اللافتات والصور الدينية واللبنانية المرفوعة في لبنان بغية تصنيفها بين كونها سياسية تثير الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة أو أنها دينية بحتة لا يجب أن تستفزّ أحداً.
وفي مشروع الحوار القائم بين رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون ورئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع خُصِّصت جلسات عدة للبحث والتوافق على مواصفات رئيس ماروني قوي، وهو ما زال مفقوداً.
وفي ملف تسليح الجيش اللبناني تحدّث المفاوضون كثيراً عن المواصفات التي يجب أن تتوافر في الأسلحة التي يحتاجها الجيش مخافة إستخدامها في غير المواجهة مع الإرهاب. ذلك أنّ هناك مَن يخاف من مواصفات أسلحة يمكن أن تُستخدم ضدّ إسرائيل، في وجود آخرين يخشون مواصفات أسلحة يمكن إستخدامها في الداخل.
وهنا نوّه السفير بأنه لا يمكنه إخفاء الملاحظات التي تلقّاها عند البحث في تسليح قوى الأمن الداخلي، مستغرِباً ما سمعه من أحد الأطراف متحدِّثاً عن مواصفاتٍ لأسلحة تحتاجها او لا تحتاجها هذه القوى، خصوصاً فرع المعلومات لأنّ مهماته داخلية ولا يحتاج الى أسلحة بحرية أو جوية مثلاً يستخدمها حصراً الجيش اللبناني.
وفي الشأن الإجتماعي، وعند الحديث عن سلامة الغذاء يتركز البحث على المواصفات الطبّية والفنّية. وكذلك في التعيينات الإدارية تتحدثون عن مواصفات الموظف المناسب في المكان المناسب قبل أن تُخرق هذه القواعد عند تقسيم المواقع وتوزيعها حسب المواصفات المذهبية فينتصر منطق المحاصصة.
وقال السفير: لو شئنا التوسّع أكثر لكان هناك مزيدٌ ممّا يمكن الإشارة اليه من هذه الأمثلة. لكنّ الأهم هو أنكم تغفلون أنّ الأمور لا تُقاس بهذه الطريقة ولا على هذه الخلفيات فحسب في كلّ زمان ومكان. فهناك أخطار تتهدَّد الكيان ولا تنتظر جدلاً بيزنطياً مترَفاً في شأن هذه المواصفات.
ذلك أنّ البدائل منها متوافرٌ في مكان آخر وتحديداً في التخلّي عن رهن مصالحكم بالخارج في إستحقاقات كثيرة خصوصاً عند إنتخاب رئيس الجمهورية علماً أنّ بوجوده ينتفي الحديث عن المواصفات في مواقع كثيرة وينتظم العمل في المؤسسات الدستورية والتشريعية والتنفيذية والقضائية.
فمتى تقتنعون – وقبل فوات الأوان – بأنّ القرار السياسي له الأولوية في النقاش بجنس الملائكة حول المواصفات المذهبية والسياسية والحزبية المتحكِّمة بالبلاد وحياة العباد.