IMLebanon

الإعاقة المجتمعية

بعض التحديات التي يطرحها «داعش» على المجتمعات العربية والإسلامية، وعلى الآخرين كذلك، هي تحديات الأمن والعنف والإرهاب. لكن التحدي الأكبر هو الثقافة التي تصدر عنها هذه الممارسات والتي جعلت المسلمين في أزمة تاريخية وجودية في ما خص مرجعيتهم الثقافية العليا وهويتهم وصلتهم بعضهم ببعض وبالعالم.

لدينا الآن الجواب الأمني والعسكري، وإلى حد ما سياسات تجفيف مصادر التمويل والتسليح والتسهيلات اللوجستية من خلال التحالف الدولي المعلن لمكافحة الإرهاب، وتحديداً «داعش». بقطع النظر عن فاعلية هذا التحالف أو هذه الخطة، لا نجد في موازاتها أو في مواكبتها أي نشاط جدي على مستوى المكافحة الثقافية. هناك بيانات صدرت ومواقف عن مرجعيات أو عن دول أو جماعات تدين الإرهاب أو في أحسن الأحوال ترى في هذه الظاهرة «خروجاً عن الإسلام الصحيح» أو عن أخلاق الإسلام وسلوكه وقيمه.

المسألة هنا أخطر بكثير من أن يتداولها بعض المفكرين أو العلماء المسلمين على الشاشات الصغيرة أو في زوايا الصحف والمجلات. ولا هي تعالج من موقع الجماعات التي تتعرض للتكفير حين يكون هؤلاء جزءاً من الصراع السياسي الدائر على الاستحواذ وامتلاك الإسلام السياسي أو التعبير السياسي عن الإسلام والمشروع الإسلامي. بل إن أكثر الظواهر لفتاً للنظر هو انغماس «التيار الصوفي المتعدد والمتنوع» كذلك، وهو التيار المفترض أنه يتعامل مع الدين كعلاقة فردانية بين الإنسان وربه، انغماسه في المجادلة وفي العملية السياسية أبعد مما نتوقع بكثير. المسؤولية كبيرة جداً على المرجعيات المؤثرة على العلماء ورجال الدين والمجتمع كالأزهر الشريف أو جامعة الزيتونة أو النجف وقم ومفتي البلدان الإسلامية الذين يدينون الإرهاب فعلاً في البيانات ولكنهم لا يتصدون للثقافة التي أنتجت الإرهاب.

يُحكى عن بيئة حاضنة للإرهاب، أي عن مساومة بين هذه الجماعات المسلحة والمجال المذهبي أو الطائفي الذي تتحرّك فيه أو الدول الداعمة لها.

على أهمية هذا الجانب من المسألة، ليس هناك من يذهب إلى الجذور، سواء أكانت في أصل الإسلام كدين أو في الإسلام كفقه متراكم، أو في الإسلام السلطاني الذي جرى إخضاعه للسلطات السياسية في عصور وتجارب مختلفة. ربما استحوذ الجدال حول العلاقة بين الإسلام والدولة على اهتمام كبير، وقد ساهم فيه الفكر الغربي وبعضه لأسباب سياسية أو مصلحية، لكن النمط الاجتماعي للإسلام المعيش لم يتعرض لهذا المستوى من الاهتمام والبحث والتشريح.

فالسلطة أي سلطة تنبثق عن المجتمع، أي أنها تعكس نصاب العلاقات داخل المجتمع وآليات هذه العلاقات لتنتهي عند قمة الهرم في ما يسمى احتكار العنف الشرعي وتفويض أمره إلى الدولة أو الحاكم العام. والحال ليس لدينا مؤسسة للعنف الشرعي تتمثل في الدولة وضوابطها القانونية بقدر ما لدينا حكّام أو سلطات تمارس العنف بغير الوسائل الشرعية والقانونية. فرجل الأمن والشرطي والعسكري والضابطة العدلية عموماً والقاضي ونظام الجزاء هم الأقل أهمية في بلادنا من السلطات الأهلية التي تبدأ بالعلاقات البطريركية الأبوية الأسرية وتمر في نظام التربية والتعليم ووطأة العادات والتقاليد أو الثقافة السائدة لتصل إلى الزعيم أو مرجعية القبيلة والطائفة وأدوات التدخل عبر منظومات قمعية متعددة الأشكال.

هناك أدوات «البلطجة» و«الزعر» و«الفتونة» و«الشبيحة» و«القبضايات»، وهي تعبيرات عن لغات محلية لعلاقات اجتماعية عربية شاملة، وقد تحوّل بعضها إلى منظومات حزبية تؤدي الوظيفة ذاتها والدور نفسه، وصارت في حالات الفوضى أو اختلالات المجتمع والدولة «ميليشيات» أو «عصائب» أو «عصابات» يُعاد تكوينها وتشغيلها من هوامش المجتمع أو عالمه السفلي كما يجري ربطها ببعض المجموعات «المافياوية» الأكثر اهتماماً بالاقتصاد وتأمين الموارد.

في النموذج اللبناني الذي يستحق الدراسة على هذا الصعيد بتطوره من مرحلة ما كنا نسميه «الإقطاع السياسي المتحالف مع الطغمة المالية» إلى اندماج بين المستويين أو المرتبتين والدورين، هناك منظومة من القمع والسيطرة يعكسان أسلوب تشكّل وعمل السلطات العربية والإسلامية ومحاصرتها لفعل التغيير والتقدم. هنا يجب أن يحفر «الخلد اللعين» عن الإعاقة المجتمعية.