سياسة
الاجهزة الأمنية والعسكرية تجسد سلطة الدولة لدى المواطنين، وبالتالي فان عجزها عن حمايتهم يشير الى ضعف الدولة وانكسارها، وهو ما حصل اول من أمس في وسط بيروت، اثر اعتداء مجموعة كبيرة من الأشخاص بالضرب على متظاهرين سلميين والاعتداء على الاملاك الخاصة وحرقها تحت أعين الضباط والعناصر الأمنبة
الم تتوقع أجهزة الاستخبار والاستعلام والتحري والرصد التابعة لقيادة الجيش والامن العام والامن الداخلي وامن الدولة حصول هجوم واسع على المتظاهرين والمتظاهرات في وسط بيروت اول من أمس قبل وقوعه؟ الم يزودها المراقبون والمخبرون والعملاء والمحللون لديها بأية معلومات تشير الى هذا الاحتمال؟ الم يرصد أي تعبير جماعي عن نية واستعداد للهجوم قبل وقوعه؟ الم يُعرض مجرد احتمال استخدام البعض للعنف والتكسير والاعتداء؟
إذا كان الجواب سلبياً فهذا يعني ان قيادة هذه الاجهزة وضباطها فشلوا بالقيام بمهامهم ويفترض اجراء تحقيقات مسلكية داخلية، وتشكيل لجنة تحقيق برلمانية للتدقيق في كيفية صرف الأموال المخصصة لعمل هذه الاجهزة في مشاريع الموازنة. كما لا بد ان يستدعي القضاء العسكري الضباط المسؤولين الذين كانوا في مكان وقوع الاعتداءات للاستماع الى افاداتهم اذا تقدم ضحايا الاعتداءات وأصحاب الممتلكات الخاصة التي تم تحطيمها بشكاوى قضائية.
ان عدم وجود تقارير دقيقة تدل الى استعداد كتلة واسعة من المواطنين القيام بالاعتداء على مواطنين آخرين قبل يوم اول من أمس يشير الى خلل خطير ويدعو الى القلق على امن البلد، ويستدعي تغيير القيادة والضباط والاتيان بآخرين يتمتعون بالكفاءة المطلوبة. هذا العجز المحتمل يعرّض امن البلد برمته لخطر الإرهاب والاقتتال الداخلي والفوضى الأمنية.
أما اذا كانت أجهزة الاستخبار والاستعلام والتحري قد رصدت مسبقاً تحضيرات ونوايا شن مجموعة من الناس (وقد تكون منظمة او غير منظمة) هجوماً على مجموعة أخرى، كان يفترض ان تتخذ قوى الامن الداخلي والجيش والأجهزة الأمنية الأخرى تدابير امنية لمنع الاعتداءات قبل حصولها. ويمكن ان تشمل التدابير تواصلاً مباشراً مع المجموعات التي كانت تتهيأ للهجوم او تحرض عليه، بهدف ثنيها عن ذلك تحت طائلة الملاحقة القضائية. وتشمل الاجراءات اللازمة كذلك نشر قوة عسكرية كبيرة، تضم آليات مكافحة الشغب وعتادها في وسط بيروت ومحيطه لتثبيت سلطة الدولة على الشارع ومنع الامور من الخروج عن السيطرة كما حصل. لكن للأسف الشديد لم ينعقد مجلس الامن المركزي بشكل عاجل للاتفاق على خطة لحماية الناس والاملاك الخاصة والعامة من الاعتداءات. ونقل بعد الاجتماع الأمني الذي عقد قبل أيام ان قادة الاجهزة الأمنية والعسكرية، المعينين بحسب نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية، تريثوا في استخدام القوة ولو الشكلية، في مواجهة المتظاهرين حتى لا تتهم مرجعياتهم بوقوفها ضد الشعب. المفارقة تكمن في عجز أو تمنع ضباط وعناصر هذه القوى الأمنية والعسكرية عن التدخل الفعّال لحماية الناس من الاعتداء عليهم بالضرب في الشارع وامام عدسات الكاميرات. ولا بد من الإشارة الى انه رغم ظهور صور المعتدين في وسائل الاعلام لم يتم حتى مساء امس الإعلان عن توقيف أي منهم واحالتهم الى القضاء المختص. علماً ان اعلاناً كهذا قد يساعد على استعادة ما تبقى من مكانة للدولة في عيون الناس.
نقل ان وزيرة الداخلية والبلديات أمرت قوى الامن الداخلي بعدم استخدام رشاشات المياه والغاز المسيل للدموع. والغريب في ذلك عدم تسليمها بأبسط قواعد مكافحة الشغب المبنية على استخدام القوة بشكل متفاوت ونسبي بحسب تطور الاعتداءات في الميدان. لكن يبدو ان الوزيرة لم تشاور خبراء من ذوي الكفاءة في العمل الأمني المسؤول، بل شكلت فريق عملها في الوزارة من هواة وضباط ما زالوا يعتمدون الأساليب نفسها منذ الحكم العثماني: القوة المفرطة أو لا شيء. وقد يلومها بعض الضباط اليوم لأنها لم تسمح باستخدام القوة المفرطة. علماً ان اللجوء الى القوة المفرطة كان قد أدى الى مزيد من المشاكل.
ان احترام منهجية استخدام القوة بشكل نسبي ومتفاوت بحسب تطور الاعتداءات في الميدان يتطلب استقدام قوة كبيرة ومجهزة بالكامل لمكافحة الشغب الى وسط بيروت، وامر مجموعات وآليات منها التدخل حيث يستدعي الامر، وسحب تلك المجموعات والآليات لدى تراجع عدد المتظاهرين. ويستدعي ذلك اقامة غرفة عمليات خاصة بمراقبة الشوارع وتحركاتها وتلقي التقارير من فرع المعلومات والاستقصاء عن خطط وتحركات المتظاهرين، والتنسيق مع الجيش والقوى الأمنية الأخرى وطلب المؤازرة حيث تدعو الحاجة.
لم ينعقد مجلس الامن المركزي بشكل عاجل للاتفاق على خطة لحماية الناس والاملاك الخاصة والعامة
كل ذلك لم يحصل يوم الاول من امس في وسط بيروت. بل ان ابرز الملاحظات المتعلقة بالقوى الأمنية والعسكرية يمكن تلخيصها بأربع مشاهدات أساسية:
– تمنع قوى مكافحة الشغب في قوى الامن الداخلي من استخدام الغاز المسيل للدموع خلال قيام مجموعة كبيرة من الأشخاص بالاعتداء على المتظاهرين وخلال اضطرار قوة مكافحة الشغب التراجع. وأعطى ذلك المهاجمين دفعاً اضافياً ودل الى ضعف القوى الأمنية وهو ما لا يجوز خصوصاً عندما يلجأ اشخاص الى استخدام العنف والى الاعتداء بالضرب والى تحطيم الأملاك العامة والخاصة وحرقها.
– تخصيص فرقة مكافحة شغب عديدها لا يتناسب مع حجم المجموعة المهاجمة وهو ما عرض ضباط وعناصر هذه الفرقة للخطر والانكسار ما اضطر بعض العناصر الى عدم التعرض للمهاجمين. إشارة الى ان أحد عناصر قوة مكافحة الشغب بادر الى تأنيب المهاجمين بالصراخ عليهم مستنكراً ضربهم للفتيات.
– عدم وجود منهجية واضحة وخطة محكمة للسيطرة على الوضع، وتغييب آليات مكافحة الشغب المجهزة برشاشات المياه عن وسط بيروت وعدم احضارها سريعاً حتى بعد اشتداد الاعتداءات على الناس.
– عدم وجود تنسيق واضح بين المديرية العامة لقوى الامن الداخلي وقيادة الجيش في التعامل مع المتظاهرين وحمايتهم ما أدى الى عجز واضح في القيام بأي تحرك لمحاصرة المعتدين وتوقيفهم بالجرم المشهود ونقلهم الى أماكن الاحتجاز واحالتهم الى القضاء المختص لمحاسبتهم قانونياً.
أبسط قواعد مكافحة الشغب مبنية على استخدام القوة بشكل متفاوت ونسبي بحسب تطور الاعتداءات
ان التذرع بأن المجموعة (او المجموعات) المهاجمة تابعة او مقرّبة من حركة أمل أو من جمهور المقاومة لا معنى له ولا يفترض ان يمنع قوى الامن من قمعهم الا اذا كانت قوى الامن نفسها تعد محسوبة على فريق سياسي ومذهبي محدد لأن ذلك سيظهر وكأنه جزء من الصراع المذهبي الطائفي المزمن. ويدل ذلك على صوابية الحراك المطالب لا بتغيير الحكومة والعهد فحسب بل بتغيير النظام الطائفي المذهبي الفاسد والفاشل لتتمكن قوى حماية الناس من القيام بواجباتها.
من ملف : الحريري يفاوض بالشارع