IMLebanon

تعطيل المسرحية.. باحتلال المسرح!

أن «يُصنع الرئيس في لبنان»، كما يردد البعض، لا يعني بالضرورة أنه من صنع اللبنانيين، حتى لو صرفنا النظر عن كون الهيئة الناخبة اليوم مشكّلة من نواب انتهت مدّة صلاحيتهم منذ ثلاث سنوات.

إن الهدف من تلك العبارة هو تضليل الشعب اللبناني عبر الإيحاء له بإمكان انتخاب رئيس دون الرجوع للخارج، في الوقت الذي يغرق فيه لبنان في التبعية المطلقة لهذا الخارج في المجالات كافة، ما يعني أن تمرير أيّ حلٍّ لن يكون ممكناً ما لم يكن منسجماً مع مصالح الأطراف الخارجية. فالخارج هو الذي أنتج كل القرارات والتسويات الكبرى المتعلقة بتأسيس الدولة اللبنانية وإيقاف النزاعات المتعاقبة منذ حكم الرئيس كميل شمعون، بما في ذلك قرار وقف الحرب الأهلية، حيث غالباً ما حملت تلك القرارات أسماء المدن التي أقرت فيها من القاهرة إلى لوزان وصولاً إلى الطائف والدوحة وغيرها.

في الشكل، إذا ما نجحت هذه التجربة في الإتيان برئيس للجمهورية، تبقى الأزمة الرئيسة، أزمة النظام السياسي المولّد لكل الأزمات بدون حل، إذ تبقى الأسئلة قائمة: ماذا بعد انتخاب الرئيس، في مواجهته للأولويات المتناقضة والمشكلات المتفاقمة؟ وما هي الضمانة لعدم تعرّض هذا المسار للتعطيل، من داخل منطق النظام نفسه أو بتأثير من الخارج، إذا ما شعر طرف داخلي بالغبن، أو أعاد الطرف الخارجي النظر في حساباته ربطا بأيّ مستجدات؟

إن أسباباً كثيرة تجعلنا نستبعد نجاح ما تسمى «اللبننة»، وأهمها الآتي:

أولا، إن تبعية التشكيلات السياسية الطائفية للقوى الخارجية ليست من النوع الذي يتيح لهذه التشكيلات التصرف بدون إذن صريح من تلك القوى، وأيّ تسوية «داخلية» ينبغي بالتالي أن تضمن مطالب الأطراف الخارجية. غير أن تلك المطالب هي متضاربة بامتياز، بحسب ما تشهد عليه النتائج الهزيلة للزيارات المكوكية التي يقوم بها المعنيون بالموضوع عبر عواصم بلدان المنطقة والخارج. وإذا كانت هذه العواصم قد حيّدت لبنان ـ حتى إشعار آخر – عن التفجير، فليست هناك ضمانات آجلة لاستمرار إبعاد لبنان عن الصراعات الإقليمية، وبخاصة النزاع العربي ـ الصهيوني والحرب الدائرة في سوريا وعليها.

ثانيا، إن الأزمة ليست في انتخاب رئيس، بل هي أزمة نظام سياسي طائفي لا ينفك ينتج الانقسامات بين اللبنانيين على إيقاع انقسامات الخارج.

ثالثا، إن مجرّد التجميع المؤقت للقوى لا يجترح معجزة وطنية، بل تنحصر وظيفته في خلق أوهام حول مقولات من النوع: «الرئيس القوي»، «صُنع في لبنان»، «الميثاقية واستعادة حقوق الطائفة»، وهذه كلها مقولات أملاها التغيّر الحاصل في علاقة كل من الطوائف بالدولة خلال العقود الأخيرة، ولا علاقة لها بأيّ تباين بين الأطراف حول نهج التعاطي المطلوب مع واقع المشكلات والتحديات الوجودية الني يواجهها البلد راهناً، بل إن هدفها يقتصر على السعي إلى زيادة حصة طرف على حساب طرفٍ أو أطرافٍ أخرى، على غرار ما كان يؤمّل حصوله عبر طاولة الحوار، ولكنه لم يحصل فعلاً بسبب استفحال الخلافات الفوقية على تقاسم المصالح وتبادل الضمانات. ولعلّ أشدّ ما يلفت النظر هو كثرة التحالفات والتفاهمات الثنائية بين أطراف السلطة (نحو نصف دزينة من التحالفات)، من دون أن تتمكن هذه التفاهمات من إنتاج جامع مشترك بين الأطراف المعنية يتجاوز حدود الاعتبارات الظرفية والمصلحية الضيقة، ليلج إلى الخيارات الوطنية والمجتمعية الكبرى. وهذا ما يدعو إلى التساؤل مرّة أخرى: كيف لتركيبات كهذه أن تتوصل إلى تسوية من دون رعاية أجنبية؟

كيف نعطَل المسرحية؟

إن تعطيل المسرحية يكون باحتلال المسرح.

إن الحزب الشيوعي اللبناني يؤكد أن انتخاب الرئيس، سواء تحقق بدعم خارجي أو بدونه، لن يقدّم حلولاً ناجعة للأزمة اللبنانية، التي أدّت إلى تمزيق النسيج الاجتماعي للبلد وتسهيل الاستثمار السياسي المطلق للظاهرة الطائفية، ومكّنت التحالف الحاكم من تفكيك الحركة النقابية ووضع اليد على الاتحاد العمالي العام وإفراغ النقابات من محتواها الاجتماعي والطبقي، بما في ذلك نقابات المهن الحرة والروابط في المؤسسات الرسمية.

في مواجهة هذه الأخطار الكبيرة، يرى الحزب الشيوعي أن المهمة الأساسية تتمثّل في إنتاج آليات تسهم في تحرير الفئات الشعبية من تبعيتها لأطراف السلطة وتعطيل آليات استتباع وإخضاع هذه الفئات من قبل القوى الطائفية المسيطرة، وهذا ما يدعونا للعمل من أجل الدولة العلمانية الديموقراطية، عبر:

  • إطلاق حراك شعبي ونقابي وسياسي قادر على إحداث خروق سياسية وانتخابية على صعيد إصلاح قانون الانتخابات، على قاعدة النسبية وخارج القيد الطائفي ولبنان دائرة واحدة، استناداً وتثميراً إلى ما سجلته الحراكات الشعبية والنقابية السابقة من نجاحات، وآخرها الانتخابات البلدية التي تمكنت فيها القوى الديموقراطية واليسارية والشعبية من تحقيق نتائج متقدمة وملحوظة في العديد من البلديات ومن إحداث خروق في عشرات المجالس البلدية يمكن البناء عليها.

] فتح ملفات الفساد السياسي لأطراف السلطة كافة، والتحرك لمحاكمة الفاسدين، وللكبار قبل الصغار.

] تجميع القوى عن طريق التحرك على الأرض من أجل المطالب الاجتماعية والمعيشية والتنموية لكل المتضررين من سياسات الإفقار والتهميش، عبر التواصل مع قواعد القطاعات كافة وتشكيل لجان العمل النقابي المستقلة في مراكز العمل وتشجيع الانتساب للنقابات المستقلة وتشكيل أطر نقابية جديدة ومستقلة في المهن المستحدثة التي لا يوجد فيها نقابات، والعمل الجاد من أجل تشجيع قيام حركة ثقافية وطنية تتصدى لابتذال الثقافة وتسليعها وتطييفها، وإطلاق حركة شبابية وطلابية تستعيد امتلاك وتجسيد حقها في تعليم رسمي نوعي ومتطور ومنفتح على تحديات العصر وفي اكتساب مهارات مهنية مستدامة خلال مرحلتي التعليم والعمل.

بمقدار ما ننجح في تحقيق هذه الأهداف بمقدار ما يتمكن الشعب اللبناني من تعطيل المسرحية السياسية الهزلية الراهنة، ويصبح قادراً على إنتاج تاريخه وتقرير مصيره ومصير الوطن، وهذه القفزة تتطلب أن يعيد اليسار اللبناني بناء نفسه، وحزبنا منه على وجه الخصوص، بالتفاعل مع أوسع القوى الديموقراطية والمدنية التي أقصاها النظام فعلياً عن الحياة السياسية، وفرض على أقسام منها الالتحاق الذيلي بركب الطوائف وفتات السياسات التوزيعية والزبائنية.

(]) الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني