لم تستوعب القوى السياسية بعد أنّها تتعادل في الخسائر المدفوعة في “بنك الحراك”. قد تختلف النسبة بين فريق وآخر، لكن الجميع دفع ثمن الانتفاضة الشعبية الناقمة على السلطة، بمختلف أشكالها. حتى لو استلحق البعض نفسه وحاول تسلّق “البركان الاعتراضي” ليحتمي من حممه وليستثمر في المتغيرات التي كرسها على الأرض، غير أنّ يوم 17 تشرين الأول رسم خطاً أزرق بين طبقة مرذولة بكل مكوناتها وبين نبض شارع جديد يحاول تكوين نفسه وفق قواعد مختلفة.
حتى الآن، ليس هناك من رابحين في السياسة. المجموعة الحاكمة تلقت صفعة قاسية، ولو أنّها لم تعترف بعد بوقع هذه الصفعة، وحدها عفوية الناس ورفضهم للأمر الواقع، هي المنتصرة، على أمل أن تكون نجحت في إقناع الجالسين على كراسي النفوذ والقرار بأنّ مرحلة ما قبل 17 تشرين الأول قد طويت نهائياً، ولم يعد بالإمكان استنساخها بأي شكل من الأشكال المخفّفة.
رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط ذهب بعيداً في توصيفه. قال إنّ اتفاق الطائف انتهى. الأرجح أنّه قصد أنّ الرعيل المؤسس “لجمهورية الطائف”، هم الذين انتهوا. أما النظام، على علّاته فلا يزال ثابتاً، لكن قواعده أصيبت في العمق.سياسياً، وحده الموقف الروسي هو الذي استجد على المشهد العام. حسمت موسكو موقفها من الرمال المتحركة، وقضت بعد لقاء جمع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف بالممثل الخاص لرئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية لدى موسكو، جورج شعبان، بأن تكون التسوية المنتظرة على قاعدة توافقية وطنية. في الوقت عينه، كان السفير الروسي في لبنان الكسندر زاسبكين، يؤكد أن “ما نراه هو الدور الأميركي التخريبي في لبنان وليس شيئاً آخر”، وذلك رداً على تصريحات السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان.وفي لفتة مميزة تجاه الحريري، اعتبر زاسبكين أنّ “للرئيس سعد الحريري علاقات جيدة مع روسيا وكنا نعتبره الأنسب للبنان حين كان رئيساً للحكومة ونعتبر دوره إيجابياً إذا استمر في هذا المنصب”.
معادلة روسية، تزيد من تصلب العونيين في قولهم إنّ الحريري راغب بالعودة إلى رئاسة الحكومة لكنه يتمنع لاعتبارات تتعلق بدفتر شروطه لا أكثر.
هكذا، يقول أحد المتابعين إنّ تصريحات المسؤولين الروس تدفع باتجاه تسهيل المشاورات الحكومية التي تحصل بعيداً من الأضواء، ولو بقليل من الزخم. لكنّ دخول موسكو بشكل واضح وجليّ على خط الأزمة اللبنانية المفتوحة على مصراعيها، من شأنه المساهمة في تقريب وجهات نظر القوى المتخاصمة.
يضيف أنّ موسكو لن ترضى بوضعها خارج الساحة اللبنانية وهي التي باتت على مقربة أمتار من الحدود اللبنانية، وبالتالي قد تتفهّم موازين القوى التي فرضها خلط الأوراق الناجم عن انفجار الشارع، لكنها لن تقبل بتجاوزها كلياً.
يشار إلى أنّه بعد مرور أكثر من شهر على انطلاق شرارة الحراك الشعبي، صارت للعبة السياسية، قواعد محددة رسمت سقوفها المواقف الدولية مما يحصل في ساحات الاعتراض: لا للفوضى الأمنية، ولا للانهيار الشامل. دون هذا السقف، تمارس القوى السياسية لعبة عضّ الأصابع، ومن سيتألم أولاً سيدفع من كيس تنازلاته.
على ضفّة “حزب الله”، يقول المطلعون على موقفه إنّه يتحصّن بالصبر الاستراتيجي الذي يغنيه عن استخدام أي ورقة ضغط، وتحديداً تلك التي لها علاقة بصراع الشوارع ولهذا يمارس أقصى الضغوط على جمهوره لمنعه من القيام بأي ردة فعل ازاء التحركات الشعبية. بات شبه متيقّن أنّ الوقت كفيل بإعادة ترتيب الوضع الداخلي، خصوصاً وأنّ المواقف الدولية حددت سقوفاً واضحة، سيكون من الصعب تجاوزها.
ومع ذلك، يقول أحد المشاركين في طبخة المشاورات أنّ الحراك الدولي المستجد لم ينسحب بعد على مواقف القوى المحلية، حيث لا تزال المشهدية على ذاتها: الحريري لا يزال رافضاً لأي وجه سياسي من صنف الصقور فيما يعتبر “التيار الوطني الحر” أنّ القاعدة التي تسري عليه لناحية ابعاد رئيسه جبران باسيل، يجب أن تسري على غيره وتحديداً الحريري.
وبالتالي إنّ السيناريو الأكثر قابلية للتنفيذ هو تسمية الحريري ممثلاً عنه يكون مقبولاً من بقية القوى السياسية لتأليف حكومة تكنو- سياسية بمهمة انقاذية لا تتعدى الستة أشهر. لكن قوى الثامن من آذار لا تزال حتى اللحظة تشكك في امكانية تنحي الحريري عن رئاسة الحكومة رغم كل ما يقوله. ويتداول هذا الفريق كلاماً منسوباً إلى الحريري قاله خلال الساعات الثماني والأربعين الماضية لأحد النواب ومفاده انّ أي شخصية سنية ستطرح لرئاسة الحكومة ستواجه مصير الوزير السابق محمد الصفدي.
وفي حال تمّ تجاوز مطب رئاسة الحكومة، يشير أحد المشاركين إلى أنّ توازنات الحكومة العتيدة تشكل عقبة أساسية أمام قيام الحكومة حيث يطالب “التيار الوطني الحرّ” بتسمية ثلث الوزراء، أي ثمانية في حال كانت من 24 وزيراً، خصوصاً وأنّه سبق للحريري أن أبلغ القوى السياسية في مرحلة سابقة أنّه مستعد لتأليف حكومة تحافظ على توازنات الحكومة المستقيلة حتى لو اختلف العدد. أما الآن، فقد تغيّرت الوقائع بعدما انتقل رئيس الحكومة المستقيلة إلى مقاربة مختلفة كلياً.
وعليه، يتوقع المشاركون في الطبخة الحكومية أن يحمل مطلع الأسبوع بعض المستجدات التي من شأنها أن توضح معالم المرحلة المقبلة، وتالياً مسار المشاورات.