واقع الخلل والإحباط الحالي في الشارع السنّي، ليس فريداً من نوعه في تاريخ الطوائف الكبرى في لبنان. الطوائف المسيحية، وخاصة الموارنة، عانوا في فترة مريرة من التضعضع والضياع والإحباط إبان الوجود السوري في لبنان، وخاصة في التسعينات، حيث تم نفي رئيس حزب الكتائب الشيخ أمين الجميل، ورئيس التيار الوطني الحر العماد ميشال عون إلى فرنسا، وزُجّ برئيس حزب القوات اللبنانية د. سمير جعجع بالسجن.
وكانت مشاعر التهميش والإحباط مهيمنة على الطائفة الشيعية في مرحلة ما قبل ظهور حركة المحرومين التي أطلقها الإمام موسى الصدر، وشكلت منطلقاً لمراحل النهوض التي توالت وتعززت بعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران.
لذلك يمكن القول أن ما يعانيه الشارع السنّي ليس مصيراً نهائياً ومحتوماً، ولا هي حالة مستعصية على العلاج، ويستحيل إيجاد الحلول المناسبة لها، بقدر ما هي مرحلة دقيقة ومعقدة، تتطلب رؤية وخطة عمل إستراتيجية الأبعاد، ومثابرة في المتابعة وبذل الجهود اللازمة للخروج من حالة التردي الراهنة، والعمل الدؤوب لإستعادة ديناميكية النخب والشارع، وإعادة الطائفة الكبرى في لبنان إلى مكانتها الطبيعية في المعادلة الوطنية، وإصلاح الخلل الحالي في التوازنات الداخلية.
وقطعاً لا يعني هذا الكلام أن هذه الخطوات سهلة التحقيق، وأن هذا الواقع المرير يمكن تغييره بكبسة زر، بقدر ما هو عمل شاق، ومحفوف بالصعوبات والإرهاصات المختلفة، ويتطلب تنسيق الجهود، وتوحيد المواقف من القضايا الأساسية، وتلاقي الفعاليات السياسية والروحية، وجماعات النخب من المفكرين والمثقفين والأكاديميين، وأهل الإقتصاد والمؤسسات التربوية والإجتماعية، والمجموعات الأهلية في مختلف المناطق، ليشارك الجميع في إطلاق ورش عمل لبرنامج يحدد الأولويات، ويرسم دوائر الأهداف التي يجب الوصول اليها في فترة زمنية معينة.
إن قيادة مثل هذه الحركة الإستنهاضية المنشودة، تبقى من مسؤولية المرجعيات السياسية والروحية المعترفة بهذا الواقع المرير، والمؤمنة بضرورة العمل على معالجته، والخروج من دوامة التشرذم والإحباط، والقادرة على ترميم وحدة الصف، وإغلاق كل تناقضات الصراعات الفردية والمناطقية السابقة، والتي أوصلت الوضع إلى ما هو عليه من التردي والضعف.
لقد سبق لأهل الجماعة أن طرحوا عدداً من البرامج الإستراتيجية والمبادرات الوطنية، في مراحل الحرب الصعبة، مثل الثوابت الوطنية الإسلامية التي أُعلنت من دار الفتوى في عهد المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد، وبحضور قيادات إسلامية سياسية وروحية، سنّية وشيعية، في وقت كان الحديث عن التقسيم والتفتيت هو خيار أطراف سياسية ودينية أخرى.
ولن يكون من الصعب على أهل الجماعة الإلتفاف حول مرجعياتهم السياسية والروحية، لتجديد روح المبادرات الوطنية الخلاقة، وإيجاد المخارج المناسبة لواقعهم الراهن ضمن الإطار الوطني الجامع، وبعيداً عن أي حساسيات طائفية أو مذهبية، أو حتى مناطقية.
ثمة مؤشرات مشجعة برزت بعد الإنتخابات الأخيرة، بدأت بتوحيد موقف رؤساء الحكومات السابقين من اللغط الذي دار لبرهة حول الصلاحيات الدستورية للرئيس المكلف، وجاء تكرار اللقاءات في بيت الوسط ليضع اللبنة الأولى في قاعدة توحيد الصف، وإعادة جمع ما فرقته الإنتخابات. كما أن تلاقي المرجعية الدينية مع الخطاب السياسي للقيادة السياسية، من شأنه أن يساعد على دفع الأمور إلى الأمام في عملية جمع الشمل، وإطلاق مسيرة الإستنهاض المطلوب.
ثمة من يعتقد أن العقدة السنّية ما كانت لتبلغ ما وصلت إليه من التعقيد والتأزم، لو تمت معالجتها تحت مظلة دار الفتوى، (على غرار اللقاءات المسيحية التي ترعاها بكركي)، حيث يأخذ الحوار دوره الطبيعي في مثل هذه الملفات الشائكة، ويصبح البحث عن الحل المناسب مسؤولية تُحمّل أصحابها أمانة الإلتزام بمصالح الجماعة، التي هي أساساً جزء لا يتجزأ من المصالح الوطنية العليا.
لعلنا لا نبالغ إذا إعتبرنا أن لدار الفتوى دوراً كبيراً في إستعادة المبادرة وإطلاق مرحلة النهوض، إذا قدر لها أن تبصر النور، ولا تضيع في زحمة الأزمات والملفات المستعصية التي تضغط على أعناق البلاد والعباد، الأمر الذي سيزيد الأمور تفاقماً في الشارع السنّي، ويضع أوضاع الجماعة في مهب شتى الإحتمالات!
(الإسبوع المقبل: ما هو دور السعودية ومصر في مساعدة أهل الجماعة على إطلاق حركة الإستنهاض المنشود؟)