من أين نبدأ في الحديث عن الكباش الحكومي الحالي، ومدى علاقته بالخلل الحاصل في المعادلة الداخلية، نتيجة استضعاف الطائفة السنيّة، والعمل المستمر على تطويق مواقعها الدستورية في السلطة، وفي مقدمتها طبعاً رئاسة الحكومة!
الواقع أنه ما كان لما يُسمى اليوم «العقدة السنيّة» أن تكون، لولا الاختلال الفادح الذي انطوى عليه قانون الانتخابات الأخير، سواء في اعتماد نسبية عرجاء، أو في تقسيم الدوائر الانتخابية، بما يتناسب مع حسابات أحزاب وتيارات سياسية أخرى، مثل «التيار الوطني الحر» و«حزب الله»، فضلاً عن الأخطاء التي حصلت في التحالفات، في أكثر من منطقة، وأدت إلى حصول الاختراقات المعروفة لمواقع تيار المستقبل.
لقد خرج «التيار الأزرق» من الانتخابات مُنهكاً، ومُستنزفاً وخاسراً لعدد من المقاعد النيابية، لمصلحة خصومه السياسيين والحزبيين، الذين وجدوا في سوء إدارة المعركة الانتخابية، والثغرات التي أتاحها قانون النسبية العرجاء، فرصة للنفاذ إلى القبة البرلمانية، والتمركز في كتل نيابية منافسة لـ «المستقبل»، قبل أن يأخذوا بنصيحة الحلفاء، ويعملوا على تشكيل الكتلة الحالية على عجل، للظهور بمشهد مستقل عن الكتل الأخرى.
لا بدّ من الاعتراف بأن أربعة نواب من الستة فازوا بأصوات الحلفاء غير السنيّة، وأن أثنين فقط يمكن القول أنهم فازوا بأصوات مواطنيهم السنّة، نتيجة التواصل الدائم مع قواعدهم، وتقديم الخدمات الضرورية لهم. الأمر الذي يؤكد حالة الإحباط والتضعضع السائدة في أوساط أهل الجماعة، وخاصة في القواعد التقليدية لتيار المستقبل، الذي كان في المجلس النيابي السابق، يتفرّد مع الفائزين على لوائحه بتمثيل الأكثرية الساحقة من السنّة في مختلف المناطق، من خلال فوزه بأربعة وعشرين مقعداً من أصل سبعة وعشرين للطائفة السنيّة.
تسمية مائة وخمسة عشر نائباً لرئيس تيار المستقبل مرشحاً لتأليف الحكومة الجديدة، لم يكن ليعوّض حالة الخلل المتزايد في المعادلة الداخلية، بقدر ما كان بمثابة استدراج للزعيم المصدوم بنتائج الانتخابات إلى مواقع الضعف السياسي، وتسجيل المزيد من النقاط عليه من خلال الكباش الحكومي.
وقبل ساعات قليلة من إعلان ولادة الحكومة العتيدة، انكشفت لعبة الاستدراج الملغومة بكل أبعادها السياسية وغير السياسية، وتم قلب الطاولة رأساً على عقب، عبر طرح توزير أحد نواب سنّة «٨ آذار»، من قبل الأمين العام لحزب الله في خطابه الناري الأخير، وربط الولادة الحكومية بشكل قاطع بموافقة هؤلاء النواب الحلفاء.
وكانت زيارة النواب الستة لقيادة الحزب في الضاحية الجنوبية، أشبه برسالة علنية لمن يعنيه الأمر، وخاصة الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، بأن لا حكومة بدون توزير أحد هؤلاء النواب، ولو اقتضى أن يبقى البلد بلا حكومة أشهراً طويلة أخرى، أو حتى بضع سنوات حتى نهاية العهد!
تفاصيل المساعي الدائرة لإيجاد حل مقبول، وما يكتنفها من مناورات كرّ وفرّ بين الأطراف المعنية معروفة، ولا ضرورة للخوض في تفاصيلها هنا، ولكن ما يعنينا هو البحث عن خلفية ولادة هذه العقدة فجأة، في الربع ساعة الأخير للولادة الحكومية المنتظرة، وعلاقتها بالخلل الحالي في المعادلة الداخلية.
ثمة تساؤلات تساعد على الوصول إلى رسم الخطوط العريضة للمشهد الحالي:
١ – هل كان لمثل هذه الاختراقات أن تحصل لو رفضت الكتلة النيابية لتيار المستقبل الموافقة على مشروع قانون النسبية، كما كان معروضاً، قبل إقراره؟
٢ – لماذا تمّ البصم على تقسيمات الدوائر الانتخابية رغم كل ما تضمنته من إجحاف، خاصة لبيروت، التي تم تقسيمها طائفياً، حسب خريطة الحرب البغيضة: «شرقية وغربية»، وصيدا التي تم سلخها عن محيطها وضم قضاء جزين إليها؟
٣ – من يتحمّل مسؤولية التحالفات الانتخابية، التي جاءت في معظمها لمصلحة الخصوم والحلفاء على السواء، وعلى حساب تيار المستقبل وما يمثله في الطائفة السنيّة؟
٤ – أي نوع من التحالفات يمكن أن يعوّض لتيار المستقبل خسارة نصف كتلته النيابية، فيما تمكن الآخرون، وخاصة «القوات»، من زيادة عدد نوابهم، أو على الأقل دعموا فوز حلفائهم، كما هو حال «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، والذي كان من نتائجه ظهور «عقدة النواب السنّة»؟
لقد تبين من الاتصالات والمناورات التي أحاطت بالمساعي المتعثرة لتشكيل الحكومة، أن ثمّة من يستغل الخلل الراهن، ويراهن على «ضعف» الرئيس المكلف، وإمكانية تجاوبه وتغيير موقفه في اللحظة الأخيرة، قياساً على تجارب سابقة، وآخرها القبول بقانون النسبية، بهدف تسريع الخطوات لإعلان الحكومة، تحت ضغط الموقف المتصلب لحزب الله، من جهة، والحالة الحرجة التي تعاني منها الأوضاع الاقتصادية والمالية في البلد.
ولكن جواب الحريري كان واضحاً وحاسماً في مؤتمره الصحفي الأسبوع الماضي: لن أنكسر. لن أتراجع. لا أستطيع أن أبقى دائماً «أم الصبي». وهنا بيت القصيد لأن شعار «نحن أم الصبي» كان يبرر كل التنازلات السابقة، على حساب المبادئ والثوابت أحياناً، الأمر الذي جعل البعض يسأل: ماذا بقي من الصبي؟!
ثمّة مؤشرات تدل على أن ولادة الحكومة إذا لم تتم خلال الشهر الحالي، فهي مرشحة للترحيل إلى العام المقبل، مما يعني أن البلد مُقبل على مزيد من التعقيدات السياسية، والصعوبات الاقتصادية، في ظل خلل متمادٍ في توازناته الداخلية، ينعكس إرباكاً وضياعاً في إدارة شؤون البلاد والعباد، قد يؤدي إلى عودة السجال حول صلاحية نظام الطائف في تجنب الأزمات، أو إيجاد الحلول المناسبة لها، ويوفر الفرصة الملائمة للداعين إلى ميثاق جديد، قد يكون مفتاحه اعتماد نظام المثالثة، الذي يتجلّى حالياً في طريقة تعطيل تأليف الحكومة!
فهل الجماعة مستعدة لمواجهة مثل هذه التطورات، أو غيرها، بالمستوى المنشود؟
الأسبوع المقبل: هل تواجه الجماعة الخلل باستعادة المبادرة؟