الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني: يمكن تطوير حداثة إسلامية مغايرة للحداثة الغربية
للدين أجهزته البيروقراطية الأيديولوجية والمالية، وأحياناً العسكرية. للدولة أجهزتها البيروقراطية الأيديولوجية والمالية والعسكرية. تتميز الأجهزة الدينية بالتركيز على المعتقد والأيديولوجيا، ولا فرق كبيرا بينهما. وتتميز الأجهزة الدولتية بالعنف المسلح. كل منهما سلطة، والسلطة الدينية والسلطة الدولتية تتكاملان في غالب الأحيان. لا يغير في ذلك أن السلطة الأيديولوجية يمكن أن تتحول من دينية إلى عقيدة أخرى ليس فيها معتقد إلهي. تتدخل الطائفية للجمع أو التوفيق بين السلطة الدينية والسلطة الدولتية، بين عنف الأيديولوجيا وعنف الدولة. في جميع هذه الأحوال يختفي الاختيار الفردي، يزول الضمير الفردي لمصلحة جماعة هي الطائفة (الطوائف) التي تقبض على أزمة سلطة الدولة.
لا علاقة لكل ذلك بالإيمان. الايمان بالله علاقة بين الفرد والله، مع اختفاء الفرد لا نعرف مصير الله بين الناس. سلطتان دنيويتان تتصارعان على متاع الدنيا ولا يستطيع أحد القول إن العلاقة مع الله، وهي الإيمان، ذات أولوية في هذا الصراع. يرتكز كل منهما على تراتبية في المجتمع. هي تقسيم العمل بين الطبقات؛ وأحياناً الأمم في ما يسمى إمبريالية.
أدى النضال الديموقراطي، عبر قرون، من أجل التحرر الفردي والقومي، إلى نزع القداسة عن الدين وعن الدولة. لم يعد الإمبراطور مقدساً إلهياً. تحاول القداسة أن تبقى في الدين ولو مجازياً.
تعني القداسة أن الأمر فوق النقد والمساءلة، وأحياناً فوق التفكير، بما ينتهي إلى إعطاء الشيء مسحة إلهية مفترضة. كان نزع القداسة عن الدين وعن الدولة ضرورياً من أجل انتقال السلطة إلى الشعب. قرر الناس أن كل شيء خاضع للنقد والتجريح، وأن كل سلطة خاضعة للمساءلة. عندما يتعلق بكائن يمكن نقده ومساءلته، فهو لا يمكن أن يكون مقدساً أو إلهياً، وبالتالي يمكن أن يكون منتخباً. ولا تنفع العصمة الإلهية في ذلك.
إن مسألة العلمانية ليست في فصل الدين عن الدولة. هما مفصولان عن بعضهما منذ بداية كل مجتمع. لكل منهما مؤسسة. الواحدة منهما تخضع للأخرى حسب ظروف كل مجتمع، وحسب الأطوار التاريخية. المشكلة الأساسية هي في نزع المقدس من كل منهما، ذلك في سبيل إفساح المجال امام العقل من أجل المساءلة والنقد. والعقل لا يعمل من خلال المقدس، بل من خلال الضمير الفردي. الضمير الفردي يدمّر المقدس.
تحاول السلطة السياسية التعويض عن فقدان القداسة بالطغيان، ويحاول الدين التعويض عن فقدان القداسة بالطائفية. هو ليس نزاعاً حول ضرورة الدين أو عدمها، ولا نزاعاً حول ضرورة الدولة أو عدمها، بل هو نزاع حول إمكانية النقاش في الدين والنقاش في الدولة، واعتبار التغيير في كل منهما ممكناً. هو خروج على المعطى التاريخي وتأكيد أن الإرادة البشرية تحكم في الحالتين. ليست هناك مطلقات سياسية أو دينية، إلا ما اختاره الناس، وكل ما يختاره الناس نسبي المعرفة ونسبي الحقيقة، معرض للنقد، قابل للإلغاء، مستعد لقبول كل ذلك.
الدولة اجتماع بشري. الدين اجتماع بشري. اختار الناس الدولة لأن المشاركة فيها تعني أنهم يصيرون مواطنين. يستحيل ذلك في الدين لأن ما يُعتبَر ضرورات إلهية، يجعل ذلك مستحيلاً. ليس هناك مقدس في الدين إلا الكتاب. دخلت على الدين أشياء كثيرة إضافية جعلت القداسة في كل مكان. تمنع القداسة الحوار. لا معنى للسياسة إلا الحوار البشري. لذلك كان خيار الناس هو الدولة، على أن يبقى الدين في الإطار الفردي.
ما دام الدين جماعياً (طائفياً)، وما دامت الدولة جماعية، فإنهما يتضاربان حكماً، سلباً أو إيجاباً. لذلك وجد الناس ضرورة أن تبقى السياسة وحدها جماعية، منزوعة القداسة. تُنزع قداسة الدين بأن يتحول من الجماعية إلى الفردية.