IMLebanon

كوَته بالحديد وسَقته «زوم» التبغ… «فتداوى» بداء المخدّرات

لا تزال لسعات جَلد والد علي عواضة إبن السنوات الأربعة له، ترنّ في أذنه، فوجهُه ينطق خوفاً، وسلوكه ينضح اضطراباً نفسياً، فيما والدته تنظر بحذر لتداعيات التعذيب على حياة ابنها. أمّا (رياض 28 عاماً)، الذي سبقَ له أن تجرّع كأسَ التعنيف مراراً في طفولته، فيروي لـ»الجمهورية»، دربَ الألم الذي ساره من النوم مربوطاً بكرسيّ الحمّام إلى عقاب التعرّي… طفولة استيقظ فيها وهو في أنياب الموت البطيء الذي كاد يخطفه لولا… إشارة قلبَت حياته رأساً على عقب.

خسرَ رياض والدَه وهو في السادسة من عمره، وكان لوالدته مفهوم خاص للتربية، ومذّاك اليوم بدأ يعيش مسلسل رعب طويل، فلأيّ سبب أو سوء تصرّف كانت أمّه في المرصاد من دون أن تحاول فَهم خلفيات سلوكه. ففي أحد الايام وبينما كان عائداً من المدرسة وجد علبة سجائر شبيهة بعلبة أمه، فحَملها معه في حقيبته المدرسية مردّداً: «أكيد الماما بتعوزا»، وغاب عن باله أن يخبرَها عنها لاحقاً.

لكن وفي صباح اليوم التالي وبينما كانت إحدى قريباته تساعد الوالدة في تحضير الزاد له ولشقيقتَيه وأشقّائه الثلاثة، وجَدت العلبة فوضعتها جانباً، وفي ما بعد أعلمت الوالدة. كان رياض يومها يلهو مع رفاقه في المدرسة غيرَ مبالٍ بعلبة السجائر، إلى أن لمحَ أمّه وهو عائدٌ إلى المنزل ظهراً، تنتظر على الشرفة وعيناها تنضحان شرّاً. بدأت قدماه «تسكّان» وتمنّى ألف مرّة لو تطول درب المنزل أو يتوه في الطريق.

مراحل التعذيب

يروي رياض: «ما إن وطِئت عتبة المنزل حتى انهمرَت عليّ ضرباً بحزام جلد أسود عريض بما أوتيَت من قوّة. وانتقلت إلى مرحلة التعذيب الثانية، فحمَّت شيش حديد على النار وبدأت تطبعه في مختلف أنحاء جسدي، وأنا أصرخ ألماً من اللهيب. وانتقلت إلى مرحلة التعذيب الثالثة فعَمدت إلى تفتيت السجائر في كوب ماء وأجبرَتني على شربه كاملاً، على رغم مرارة النكهة وتقيُّئي المتواصل».

لم تكن تكتفي أمّه بهذا القدر من التعذيب الجسدي، ومنعاً له مِن أنّ يخفي كدمات الضرب بملابسه في المدرسة، انتقلت إلى المرحلة الرابعة

«إستقدمت ماكينة حلاقة وعمدَت إلى قصّ شعري على نحو متقطّع، ليسخرَ منّي رفاقي، وكانت تأبى أن أتغيّب ولو ليوم عن المدرسة ريثما تخفّ الضربات أو أرتّب قَصّة شعري».

لكلّ مخالفة في قاموس تلك الوالدة نوع محدّد من التعذيب، فإذا حصَل على علامة متدنّية كان وجع رياض من نوع آخر، فيقول: «كانت تربطني على الشرفة وأنا عارٍ، ليسخرَ منّي المارّة، وأحياناً كثيرة تُكبّلني بجنزير بعنقي وتربطني بكرسي الحمّام، لأنام نوم الكلاب». أمّا عن ردود أفعال إخوته، فيلفت إلى أنّهم لم يتجرّأوا أبداً على التدخّل، فحصّتهم في التعذيب محفوظة عند المخالفة».

والنتيجة؟

نتيجة ما لاقاه رياض من تعذيب في كنَف العائلة، وما اختبرَه من تحطيم نفسي، تولّدَت في نفسه كراهية للمدرسة وحبّ للمشاكل والضرب في الطريق، بحثاً عن مكان له في المجتمع، فيقول: «في المنزل كنتُ صفراً لا دورَ لي ولا كلمة، وكأنّني ريشة غبار، لذا مع دخولي سنَّ المراهقة تحوّلتُ عدائياً وصاحبَ مشاكل يتوق لأثبات نفسه والبحث عن موقع في المجتمع، كردّة فعل عكسية عمّا قاسيتُه في المنزل من محوٍ لشخصيتي».

إستمرّ مسَلسل تعنيف رياض إلى أن توفّي فجأةً شقيقُه الصغير وهو في السابعة من عمره نتيجة توقّفِ قلبه عن الخفقان، فالتهَت الوالدة بحزنها، ولاحقاً استغلّ رياض انتقالَ شقيقته إلى شقّة مستقلّة ليعيش معها.

حاولَ بدايةً مواصلة عِلمه، لكنّ الحزن والوجعَ أعميَا بصيرته وهو في صفّ الشهادة المتوسطة، فترك المدرسة ووجَد ملاذه في الشارع. لم يجد رياض من يسانده أو يصوّب رأيَه، فجميع إخوته تزوّجوا حتى إنّ شقيقته الأقرب إلى قلبه سافرَت لتلتحق بزوجها، وبقيَ وحيداً.

فيقول: «وجدتُ في الشارع شباباً يُشبهونني، معنّفين، متألمين، منهم اليتيم، أو والداه مطلّقان أو لأمّه علاقات متعدّدة، أو والده سكّير، أمضيتُ نحو عامين في الشارع أسكر وألهو حتى منتصف الليل، ولم أكن أتّصل بأيّ من أشقّائي إلّا بعد تورّطي في مشكلة معيّنة أو لحاجتي إلى المال».

«خود دخِّن مجتَين»

بلغَ الفَلتان ذروته مع رياض في ليلة احتفاله بعيد ميلاده السادس عشر، فقال: «خرجتُ مع رفيقين لي لنسهر وإذ بنا نلتقي بأحد الشبّان وينضمّ إلينا للسهر، وبعدما أدرك الأخير أنّ المناسبة عيد مولدي، أصرّ على أن يعايدني على طريقته الخاصة، فسحبَ من جيبه سيكارة ماريغوانا قائلاً: «خود دخِّن مجتَين»، وبَعد «المجتَين» تبدّلَت نظرتي».

يصمت، تذهب به الذاكرة إلى تلك اللحظات السوداء، ويتابع: «بصراحة نسيتُ مشاكلي، شعرت بأنّني مشلول، إنتابتني موجة ضحك ونسيت وجعي، ألمَ الطفولة الذي يكبر معي»، ومِن حينها فتحَ رياض صفحةً جديدة مع الحشيشة والماريغوانا.

«… رافقني إلى الحمّام»

واصَل رياض أيّامه على وقع الحشيشة، ووسَّع علاقاته مع التجّار، حتى إنّه لم يكن يبالي للمصروف، خصوصاً بعدما بات يعمل ليلاً في محالّ بوكر لشقيقَيه. إلى أن جاءَ عيد ميلاده الثامن عشر وقرّر مجدّداً الاحتفال بهذه المناسبة، وبينما كان ثمِلاً دعاه أحد الساهرين ليرافقَه إلى الحمّام، «وهناك قدّم لي ورقةً، فتحتُها فوجدت بودرة بيضاء، فكانت كوكايين، فأخذتُها، وسرعان ما شعرت بيقظة لخمس دقائق وأكملت سهرتي. ولأنّني شعرت بالنشاط عدتُ وطلبت منه المزيد، فتوجّهنا أربعة أشخاص، شابّان وفتاتان إلى المرحاض حيث تعاطينا معاً، وخرجنا كأنّ شيئاً لم يكن».

إنتهت السهرة، واستيقظ رياض ليجد نفسَه يتصل برفيقه ويتوسّله المزيد، «وبعدما كان غرام الكوكايين يكفيني ليومين، وأدفع ثمنَه 100 دولار، بات لا يكفيني إلّا نصفَ ساعة». إستمرّ رياض مستسلِماً للكوكايين إلى أن أثيرَت حوله الشبُهات، فغادر لبنان نحو سنة بمساندة أخيه ومعارفهم، وعمل قرابة العام في إحدى الدول العربية، وفي طريق عودته إلى لبنان اتّصَل برفيقه ليحضر معه الكوكايين عند اصطحابه من المطار».

إلى الانتحار

توسّعَت مروحة تعاطي رياض، خصوصاً بعدما تعرّف إلى زميل له في العمل يتعاطى المخدّرات، فيقول: «بينما كنت أوصِله إلى منزله صدفةً، تنبّه لآثار بودرة بيضاء في أرض السيارة، فسألني إن كنتُ مدمناً، كونه هو يتعاطى، فأومأتُ له برأسي، وطلب منّي مساعدته في تأمين البضاعة له، فتواصلتُ مع «جمال» وهو تاجر كبير في البقاع، وبات يوصل لي البضائع إلى مستديرة الصياد مقابل 100 دولار، منعاً لأيّ محاولة عملية توقيف أو تفتيش قد أتعرّض لها».

ويضيف: «زاد عدد زبائني وتضاعفَت أرباحي من دون أيّ مجهود، إلى أن أوقفَني مكتب مكافحة المخدّرات في صيدا بينما كنت أواعِد أحدَهم». سجنَ رياض أياماً معدودة، وخرج ليجد نفسَه وحيداً مجدداً، مفتقداً لنصيحة أبوية، فتعرّفَ إلى تاجر مخدّرات جديد وبات يتعاطى مادة الباز ليلاً في منزله، وفي النهار عاد ليعمل مع شقيقه في محال البوكر.

مصادفة أم تدخّل إلهي؟

في أحد الأيام، وبينما كان عائداً إلى منزله، التقى رياض صدفةً بأحد رفاقه الذين كانوا يتعاطون، وأخبرَه أنّه أنهى علاجَه مع جمعية «سعادة السماء» للأب مجدي العلاوي، وأنّ حياته أفضل. لم يبالِ رياض لِما سمعه كثيراً، لأنّ الإدمان كان مسيطراً على كامل عقله، إلى حدّ أنه قرّر الانتحار عبر رميِ نفسِه من النافذة، فنظّف غرفتَه من آثار المخدّرات، جمعَ الأغراض بكيس، ورماها من نافذته في وادٍ محاذٍ لمنزله، ثمّ وقفَ على الشرفة قرابة الثالثة والنصف فجراً ليرمي بنفسه.

«لا أنكر أنّني عشتُ صراعاً في اللحظات الأخيرة وأنا أستعدّ لأرمي بنفسي، إلى أن رنّ هاتفي، ووصلتني رسالة قصيرة من صديقي الذي تَعافى، مفادُها أنّه يرغب في الاطمئنان على أحوالي والتأكّد ممّا إذا زرتُ مكاتب سعادة السماء… للوهلة الأولى لم أرغب في النظر إلى هاتفي ولا أن أعود أدراجي، خصوصاً أنّني لم أجد في حياتي أبداً من يحبّني أو يعطف عليّ، لكنّ فضولي دفعَني إلى التراجع والنظر، وما إنْ عدتُ أدراجي لأحمل هاتفي حتى شعرتُ بنار تخرج من جسدي، والعَرق يتصبّب منّي، وإذ في غرفتي تمثالٌ لمريم العذراء أراها تُحدّقُ بي، فانهمرَت دموعي ندماً، ألماً وحزناً، وعلى رغم أنّني لم أكن مؤمناً ركعتُ وصلّيت وقلت: «دخيل إجريكي يا عدرا ساعديني».

ويتابع رياض متأثّراً، والدهشة تغمر قلبه: «أهيَ صدفة أن يذكرني شخص، لا أحدّثه إلّا مرّةً في السنة، وتحديداً عند الفجر لحظة قرّرتُ وضعَ حدّ لحياتي!». بقيَت عينا رياض مسمّرتَين في تمثال مريم العذراء حتى التاسعة من صباح اليوم التالي، عندها هرولَ إلى مركز الإصغاء التابع لجمعية «سعادة السماء» مستفسِراً عن طريقة بدءِ العلاج. 

منذ عام انضمّ رياض إلى الجمعية واكتشفَ أنّها تُداوي المدمنين بالصلاة، والتأمّل، وكانت دهشتُه كبيرة: «فكّرت بدايةً أن أعود أدراجي، نظراً إلى أنّني غير ملتزم دينياً، قلتُ في نفسي: شو جايي أعمل هون؟… ولكنْ عدتُ وسلّمت أمري لمريم العذراء». أنهى رياض فترةَ علاجه، وعاد لينطلق من الصفر، غير حاقد على أمه، وفي جعبته حقيقة واحدة: «ما من شيء مستحيل عند الله».