IMLebanon

تفكّك اليمن والخطر على الأمن العربي

فاجأتْنا الأحداث الأخيرة في اليمن، وكما في معظم المفاجآت في السنوات الأخيرة، ما كانت سارّة، بل إنها تبعث على القلق والحيرة في الوقت عينه. فخلال العامين 2011 و2012 بدا المسار اليمني شبيهاً بالمسار التونسي. صحيح أنّ تنحية الرئيس علي عبدالله صالح استغرقت وقتاً طويلاً نسبياً، وكلّفت ضحايا أكثر، لكنّ الوضع انفتح بفضل مبادرة مجلس التعاون الخليجي، وتعاوُن مجلس الأمن، على مرحلةٍ انتقاليةٍ واعدة. فقد حصل في اليمن ما لم يحصل في أيٍّ من بلدان الثورات العربية: انعقد حوارٌ وطنيٌّ شاملٌ شاركت فيه كل المكوِّنات، بما في ذلك الحِراك الجنوبي، والحوثيون، وحزب الرئيس السابق. وقد طالت جلسات الحوار وتشعّبت، لكنها خرجت بقراراتٍ شبه إجماعية بشأن اللامركزية، واستحداث أقاليم جديدة، والطبيعة الفيديرالية والديموقراطية لنظام الحكم، وسعة المشاركة لكل الأطياف. بيد أنّ المسار والمُهَل والخطوات ترددت وتعرجت بعد ذلك. وعرفنا نحن المهتمين، بالاستفهام من اليمنيين الذين نعرفهم، أنّ بعض بنود المبادرة الخليجية لم تنفَّذْ (اعادة هيكلة الجيش والقوى الأمنية مثلاً)، وأنّ بعض الأطراف المشاركة في الحوار عادت فاعترضت على بعض مُخْرَجاته. ثم تداعت الأحداث من سقوط محافظة عَمران، فإلى سقوط صنعاء، فإلى انتشار المسلَّحين باتجاه السواحل إلى الحُديدة فـ/ حَجة (ميناء ميدي)، وباتجاه وسط اليمن حتى البيضاء ومأرب، وكلُّ ذلك والجيشُ ساكتٌ يسلِّم مراكزه وأسلحتَه للمتمردين، في حين تخلت الحكومة الانتقالية عن مسؤولياتها واستقالت، وانصرف رئيس الجمهورية الى محاولة تهدئة الوضع من خلال اتفاق السِلْم والشراكة الذي لم يُنفَّذ منه شيءٌ، شأن الاتفاقات المعقودة مع “حزب الله” بعد سيطرة مسلَّحيه على بيروت في 7 أيار (مايو) عام 2008!

ربما كان مفيداً في هذا السياق محاولة الإجابة عن الأسئلة الحائرة بشأن ما جرى: من تآمر أطرافٍ في الحوار عليه وعلى شركائهم فيه، إلى اقتتال فرَق الجيش في ما بينها، وانسحاب معظمها أو الوقوف إلى جانب المتمردين. بيد أنّ الأهمَّ في ما نعتقد الآن البحث عن مخرجٍ أو مخارج ممكنة من المأْزق الذي تناول العراق وسوريا ولبنان، وهو يتناولُ اليمن اليوم وقد يتناول غيره غداً.

تحيط باليمن لدى كل عربي شحنة عاطفية. ففي الأسطورة والتاريخ معاً أنّ اليمن أصلُ العرب، إذ منهم العربُ العاربة. وهم شعبٌ عربيٌّ كبيرٌ في الجزيرة، يناهز عدد سكانه الثلاثين مليوناً. وهو إلى هذا وذاك ذو موقعٍ استراتيجيٍّ مهمٍ جداً على بحر العرب والبحر الأحمر والمحيط الهندي. ثم إنه من ناحية البر يقع على حدود السعودية وعُمان. ثم إنّ اليمن، على فقر موارده، والقَبَلية المستشرية فيه، وضعف السلطة المركزية، حقّق بعد الحرب الباردة إنجازاً مهما بالتوحيد بين شماله وجنوبه عام 1990.

منذ العام 2004 نسمعُ عن صعودٍ للمذهبيات والطائفيات والأصوليات في اليمن، وهي ظاهرة لم تعرفْها البلاد في تاريخها الوسيط والحديث. وبين العامين 2004 و2010، شنّ الجيش اليمني ست حروبٍ على المتمردين الذين صاروا يُعرفون بالحوثيين في أقاصي شمال البلاد. وهكذا، وعلى مدى السنوات العشر الماضية، كان الجيش اليمني مضطراً الى القتال على جبهتين: جبهة التمرد الحوثي في صعدة ونواحيها، وجبهة “القاعدة في جزيرة العرب” في وسط اليمن وجنوبه! أما اليوم، فيقال إنّ الرئيس السابق علي عبدالله صالح (وهو ذو نفوذٍ كبيرٍ باقٍ في الجيش) ومنذ العام 2012 تحالف مع الحوثيين لإزالة خصومه من السلطة، تمهيداً لعودته والتشارُك معهم في إدارة البلاد، ولو من طريق الانقلاب!

إنّ الخشية الآن ليست في عودة الرئيس السابق علي صالح أو عدم عودته أو قيامه بانقلاب بحجةِ إنقاذ الوضع، بل هي في الدرجة الاولى من تفكّك اليمن الى أكثر من دويلةٍ من جهة، ومن تهدُّد أمن دول الخليج والأمن العربي بعامة من جهة البحر الأحمر وبحر العرب، بوصول الحوثيين المدعومين من إيران إلى مضيق باب المندب.

نحن نعرف أنّ القوى الدولية موجودةٌ في المحيط الهندي، وفي الجزر القريبة من شواطئ اليمن وعلى مقربة من البحر الأحمر. بيد أنّ إيران، التي تتحكم بمضيق هُرمُز والنفط المتدفق عبره، إن صار لها موطئُ قدمٍ بباب المندب، فإنّ ذلك يطرح احتمالات خطيرة تتعلق بالأمنين المصري والخليجي والأمن العربي عموماً. وهذا فضلاً عن الحروب الأهلية والنزاعات الطائفية ذات العلاقة بإيران وذلك بما يتعلق بالعراق وسوريا ولبنان، والآن باليمن.

اليمن مكشوف الآن ومهدَّد بانفصال الجنوب، ومهدد بالحرب الأهلية في الشمال والوسط. والشعب اليمني مهدد بالوقوع بين الإرهاب الحوثي والإرهاب القاعدي! والخشية كل الخشية أن تصبح لـ”القاعدة” وظيفة داخلية في اليمن هي حماية أهل السنّة مَثَلاً في مواجهة طائفيات الحوثيين!

ما العمل؟ معظم اليمنيين وجدوا في المبادرة الخليجية المدعومة دولياً مخرجاً وحلاًّ. ثم جاءت مخرجات الحوار الوطني التي بوسعها تحقيق أمور عدة: الحفاظ على وحدة اليمن، والتقدم على مسار بناء دولة حديثة، والحصول على الدعم العربي والدولي للتنمية والتطوير لأهمية الاستقرار اليمني من جوانبه كافة لأمن الخليج، والأمن العربي العام، وأمن المحيط الهندي. ولذلك، فالذي نراه هو ضرورة العودة إلى المبادرة الخليجية مع العمل على استنهاض مجلس الأمن الدولي عربياً، وكذلك الدعوة إلى مبادرة عربية تعمل على استعادة وحدة الجيش اليمني من أجل تحريكه لاستعادة الأمن وتحرير المدن اليمنية من السلاح، والاتجاه للانتخابات النيابية التي تحسم بشأن المستقبل القريب، وتحسم أيضاً أحجام القوى السياسية فيه، وذلك من دون سطوة السلاح ولا سيطرة المسلَّحين.

هل لا يزال ممكناً القيامُ بذلك، وما الذي سيدفعُ الحوثيين للانسحاب من المدن التي احتلوها؟ لا يستطيع ذلك غير الجيش، وهو الجيش الذي دافع عن وحدة اليمن عام 1994، كما أنه القوة الوحيدة التي ما تأثَّرت كثيراً من قبل بالعوامل الطائفية والقَبَلية. هل يمكن إخراج الجيش من قبضة الرئيس السابق؟ المبعوث الدولي جمال بن عمر يرى ذلك ممكناً. أما نحن العرب، وبخاصةٍ الخليجيين من بيننا، فيكون عليهم جميعاً بذل كل ما في وسعهم من جهودٍ وإمكانات وعدم الانزلاق إلى تغليب التناقضات الثانوية على التناقضات الرئيسية، أو التراجع عن الاهتمام بأولويات وحدة التراب اليمني واستقرار اليمن وانتمائه العربي حتى لا يحصل له ما حصل في سوريا ولسوريا وكذلك في العراق وللعراق.

إنّ ما حصل ويحصل في سوريا واليمن وليبيا والعراق يبعث على القلق بل والخوف على العرب وعلى الأمن القومي العربي. لكنه يدعونا بعد ما ظهر من قصور وتصدعات إلى التفكير العملي والجدي بالمستقبل. لقد فكّرنا من قبل بالتكامل العربي الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي، وفكّرنا بمحكمة عدلٍ عربية، ولكن بقي ذلك كله قاصراً عن المتابعة الحثيثة وبعيداً عن التنفيذ العملي لهذه المشاريع المهمة. لذلك نطالب اليوم بالتفكير والتصرف بشأن توسيع مفهوم الدفاع العربي المشترك من خلال مناقشة مكوّنات الأمن القومي العربي والإقليمي في ظل التهديدات المتصاعدة. ويتضمن ذلك النظر في إنشاء قوةٍ عربيةٍ مشتركة، في البر والبحر والجو، تهدف إلى حماية السلام وردع محاولات التهديد للمنطقة العربية بأسرها. ومن أجل ذلك ندعو مجلس الجامعة العربية إلى درس هذا الموضوع برمته باتجاه العمل على إقراره وإنفاذه.

ويظلّ صحيحاً في كل الأحوال القول العربي السائر: “لا بدّ من صنعا (صنعاء) وإن طال السفر”!