لم يدخل النازحون السوريون إلى لبنان حباً بأرضه واختيار السكن في خيم تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة، ولا تليق بالبشر، بل أجبرهم نظام دمشق على الهجرة وإذلالهم في المنافي، سواء أكان في لبنان أم في الأردن وتركيا أو سائر أقطار الأرض. افتخر النظام أكثر من مرة بأن هذا التهجير كان ضرورياً لخلق تجانس اجتماعي في سورية، وتغيير ديموغرافي يحتاجه النظام للإمساك بالبلد على قاعدة من الهوية المذهبية الصافية. لذا كان الرئيس السوري صريحاً بأن عودة هذه الكتل البشرية، ذات الهوية الطائفية المحددة، غير مرغوب فيها. لم يكتف النظام بالتهجير القسري، بل تعاون مع قوى لبنانية لا تزال تدين بالولاء له على خطف عناصر يعتبرها معادية له وإرسالها إلى السجون السورية. لذا، إذا كان لا بد من نقاش موضوع النازحين السوريين الحامي الوطيس لبنانياً، فإن مدخل النقاش يبدأ من سورية وسياسة نظامها تجاه هذه العودة.
لم تكن المرة الأولى التي يثار فيها موضوع النازحين وضرورة عودتهم إلى بلادهم. ولم يكن النقاش اللبناني يتسم بالموضوعية والمصلحة الوطنية، بل كان دوماً خاضعاً لمصالح سياسية محلية وأغراض يمكن القول عنها إنها «دنيئة». في التاريخ اللبناني، وقبل هذا التهجير الذي ترافق مع الانتفاضة السورية وحربها الأهلية، كان الوجود السوري، على شكل عمالة متعددة الاتجاهات، يتواجد بكثافة. وعلى رغم أن هذه العمالة السورية مسؤولة، في شكل كبير، عن نهوض قطاعات أساسية في الاقتصاد اللبناني، مثل البناء والزراعة، إلا أن النظرة العنصرية اللبنانية كانت دوماً ترتفع في وجه هذه العمالة. والأمر نفسه ينطبق على الوجود الفلسطيني الذي استخدم دوماً فزاعة في وجه مجموعات لبنانية، وكان أحد شعارات الحرب الأهلية طرد الغرباء من لبنان، والمعني بهم كل عربي، بل وكل لبناني لا يقول بخطاب التيارات اليمينية بمنطق ذلك الزمان.
في المعركة المفتوحة اليوم على لسان رئيس التيار الوطني الحر مع الأمم المتحدة حول النازحين السوريين، تختلط فيها البروباغندا الإعلامية مع الصراعات السياسية الداخلية، ومع التغطية على فضائح وملفات داخلية. وكما يُقال كلام حق يراد به باطل. لا شك أن العدد الكبير من النازحين على الأرض اللبنانية يشكل عبئاً متعدد المستويات، اقتصادياً وبيئياً وصحياً واجتماعياً… وهو أمر لا ينكره أحد. كما أن ضرورة عودة النازحين إلى سورية نقطة لا خلاف عليها داخلياً وخارجياً. فلماذا وجد البلد نفسه أمام حملة مسعورة ضد النزوح السوري، وإثارة التحريض العنصري ضدهم، واستثارة الغرائز الطائفية من أن وجودهم سيغير المعادلات الديموغرافية في البلد، وبالتالي لا حل إلا بإعادتهم فوراً. استند العنصريون اللبنانيون على تحذيرات المفوضية العامة من العودة إذا لم يكن الأمان السياسي متوفرا لهم، وهو أمر طبيعي يصدر عن منظمة دولية تتولى رعايتهم.
فجأة انتفض وزير الخارجية اللبناني ضد المفوضية واتخذ إجراءات بحق موظفيها، وأثار حملة ديماغوجية وشعبوية تحت عنوان أن الأمم المتحدة تريد توطين النازحين. جيّش جبران باسيل الغرائز، وأجبر قوى مسيحية على الالتحاق بخطابه، في مزايدة ذات أهداف واضحة. تجاوز باسيل صلاحياته في هذا الشان، وتصرف كأنه الآمر الناهي في البلد، وأنه رئيس الجمهورية بالوكالة قبل أن ينال هذا الموقع مستقبلاً، في وقت بدا رئيس الحكومة مشلول القرار، على الرغم من أن قرارات باسيل تقع ضمن صلاحية الحكومة وليس وزير الخارجية. يطرح ذلك أكثر من علامة استفهام حول الاتفاقات والصفقات المتابدلة التي أتت بالتسوية التي كرّست ميشال عون رئيساً وسعد الحريري رئيساً للوزراء.
تزداد الوقاحة اللبنانية الرسمية عندما ترتفع أصوات على أعلى المستويات تحمّل النازحين السوريين مسؤولية الأزمة الاقتصادية المستفحلة، والانهيار الاقتصادي المتوقع، ويذهب كثيرون إلى تحميلهم مسؤولية ارتفاع الدين العام. في بلد مثل لبنان، لا تخفى الأسباب الحقيقية لكل أزمة معلنة، وتبيان الحقيقي منها والمزيف. في الأزمة الراهنة والتي افتتحها العهد بوزرائه، يكمن الحقيقي فيها في السعي إلى التغطية على الفضائح التي يغرق بها العهد منذ مجيئه. من فضائح بواخر الكهرباء، إلى معالجة المشكلات الاجتماعية والحد من أزماتها، إلى المشكلات البيئية، إلى فضائح التهريب والرشى، وصولاً إلى فضيحة الفضائح المتعلقة بمرسوم التجنيس الذي تفوح منه روائح الرشى الضخمة التي دفعت لتجنيس أشخاص ملوثون بالملفات القضائية والسرقة والنهب. يضاف إلى ذلك تخبط الحكم، رئاسة وحكومة في الصراعات على المحاصصات الطائفية وعلى اقتسام كعكة السلطة.
كل ذلك يفسر إغراق اللبنانيين بموضوع خارج عن إرادتهم ويتصل بالنظام السوري الذي يضع العقبات أمام أي عودة للنازحين إلى ديارهم. ولا يخفى في هذا المجال التواطؤ الرسمي السوري– اللبناني لإعادة علاقات سمتها الأساسية عودة الوصاية السورية إلى البلد. والقوى اللبنانية الجاهزة لهذه الوصاية متعددة وعلى استعداد لوضع خدماتها، ويأتي في رأس هذه القوى العهد ووزراؤه ونوابه.