في بيروت، كما في الجنوب وبعلبك والبقاع، موت ودمار وتهجير بفعل العدوان الإسرائيلي على كل الأراضي اللبنانية بتغطية ودعم أميركيين. وفيما تُسوّى أبنية وقرى بالأرض، لا يزال عشرات العمال في عوكر ينشطون يومياً في توسعة مبنى – أو بالأحرى مباني – السفارة الأميركية، وكأن لا حرب في البلد، أو أن بلاد هذه السفارة هي التي ترعى قتل المدنيين في هذا البلد. ولعل أكثر ما يثير السخرية أنه على بعد مئات الأمتار من أعمال تحصين هذه «الإمبراطورية» الأميركية بملايين الدولارات، ثمة من خسر أحباء ومنزلاً وذكريات بأسلحة الولايات المتحدة، ولا يجد فرشة لأطفاله. فمدارس المتن الشمالي الرسمية بلغت أقصى سعتها، ولم تعد قادرة على استقبال النازحين الذين يؤمّونها يومياً، في ظل غياب تامّ للجنة الطوارئ الحكومية والهيئة العليا للإغاثة كما في بقية المناطق.
ولعلّه بات من الملحّ، بالمناسبة، أن تُحاسب هذه اللجنة على ما لم تفعله رغم امتلاكها الأموال والعتاد ورصد اعتمادات لها، وأن تُساءَل وزارة التربية عمّا حال دون تحركها منذ اليوم الأول لتنظيم أمور النازحين داخل المدارس عبر فرز من هم مؤهلون لذلك. فالجولة على بعض مدارس المتن توحي بأن النازحين تُركوا ليدبروا أمورهم بأنفسهم داخل مدارس خالية من أيّ لوازم ضرورية للعيش، وفي ظل فوضى عارمة وظروف صحية وإنسانية صعبة. وإذا كان رئيس الحكومة والوزراء والمكلفون متابعة هذا الملف يتذرّعون بحجة تدفق النازحين بكثافة خلال ساعات قليلة لتبرير فشلهم، فربما بات عليهم المسارعة إلى تصحيح الخطأ عبر العمل على سدّ النواقص وتأمين أدنى مستلزمات العيش قبيل حلول فصل الشتاء. والأهم توفير عناصر من البلدية أو الجيش لضمان أمنهم بشكل عام، وعدم حصول أي إشكالات في ما بينهم، وتنظيم عمل الجمعيات للحرص على عدم السماح بسوء استخدام الموارد الموزعة أو داتا النازحين.
وحتى مساء أمس، لم تكن مدارس المتن قد حصلت على أي مساعدة من لجنة الطوارئ الحكومية، معتمدة فقط على تقديمات الجمعيات الأهلية والمبادرات الفردية، ومنها مبادرة أبرشية أنطلياس المارونية بفتح أبواب مهنية بيت شباب التابعة لها وغير المدرجة على القائمة الحكومية لاستقبال أكثر من 140 نازحاً من الجنوب والبقاع، وهي تشكّل أنموذجاً لناحية التنظيم وطريقة العمل والخطط المُعدّة للنازحين داخلها. إذ تمكّن الأب نايف زيناتي من تحويل المدرسة الى مكان يحترم ظروف العائلات وخصوصيتها. فقد خصص غرفة لكل عائلة بمفردها «احتراماً لكرامة الإنسان» كما يقول لـ«الأخبار»، مؤكداً أن «الجميع في هذه المدرسة متساوون لأيّ طائفة انتموا. شرطنا الوحيد أن السلاح والعمل الحزبي ممنوعان».
عمل الأب زيناتي على توزيع المهام على النازحين. فهناك من يهتم بالنظافة وآخرون بالطعام، وقسم ثالث مكلف بالاهتمام بالأقسام المشتركة، كما جرى تقسيم العمل وفقاً للطوابق. كذلك تمكّن من تأمين المياه الساخنة واتفق مع بعض الجمعيات والمراكز ككاريتاس ومار منصور وجمعية سطوح بيروت على تأمين الطعام على مدار الأسبوع، إضافة الى مطبخ الأبونا الموجود هناك. يساعده في كل ذلك متطوعون من كاريتاس وفريق العمل الاجتماعي المؤلف من سيدات المطرانية ورعوية شبيبة أبرشية أنطلياس. والأهم أنه سيبدأ منذ الأسبوع المقبل بفتح المدرسة لتعليم أطفال النازحين لعدم خسارة العام الدراسي، كما ينظّم مشروعاً لتعليم النازحات بعض المهارات.
وفي بيت شباب أيضاً، فتحت مؤسسة حركة فوكولاري أبواب مركزها أمام النازحين واستقبلت نحو 140 منهم. وفي بلدة المروج، فتح الحزب الشيوعي مستشفى صغيراً مهجوراً استقبل فيه نحو 80 شخصاً، ويتعاون مع هيئة التيار الوطني الحر في البلدة لتأمين المستلزمات الضرورية لهم وسط غياب تام للجنة الطوارئ وحتى لأيّ جمعية أهلية، فيما الغالبية العظمى من هؤلاء من كبار السنّ، ويحتاجون إلى الأدوية. فيما فتح أحد أصحاب مطاعم البلدة بمبادرة فردية مطعمه أمام العائلات. هذه وغيرها مبادرات فردية كثيرة تحصل في بلدات المتن الشمالي لضمان عدم بقاء أيّ عائلة في العراء وتأمين الحد الأدنى من مقوّمات العيش للنازحين، إلا أن كل هذه المبادرات رغم أهميتها لا يمكن أن تحل مكان الدولة وواجب مؤسساتها في احتضان المواطنين وضمان أمنهم وسلامتهم. وحتى الساعة، جلّ ما تفعله اللجنة الحكومية هو إرسال موفدين عنها لفتح المدارس الرسمية وترك النازحين يتخبّطون بمفردهم من دون أيّ مساعدة.
«الدياسبورا» تتبرّع
في اليوم التالي لبدء موجة العدوان الاسرائيلي الواسع على لبنان الاثنين الفائت، بادرت مجموعة شبّان إلى التواصل مع أصدقائهم المغتربين، لجمع مبالغ مالية لاستخدامها في تأمين الاحتياجات الاغاثية. ويلفت الناشط عمر العريضي، إلى أنّ «التجاوب كان جيداً، حيث تعددت أطر التبرع وتوصيل الأموال». والعريضي العارف باحتياجات مراكز الايواء الواقعة ضمن نطاق قضاء عاليه، بحكم نشاطه في العمل الاغاثي، حضّر لائحة احتياجات، يتم صرف الأموال وفقاً لها. وبما أنّ «المجتمع المحلي في قرى الجبل متحمّس حالياً ليكون شريكاً في عون النازحين، فإننا في مبادرتنا نفضّل ألا نتصرّف بكل الموارد التي تأتينا، دفعةً واحدة، اعتقاداً منا أنّه في الفترة المقبلة ستتراجع الامكانيات المحلية، وستكون هناك حاجة لتدخّلنا أكثر»، مشيراً إلى أن المبالغ التي جُمعت في الأسبوع الأول من النزوح تخطّت العشرة آلاف دولار.