بلغت كلفة النزوح السوري الى لبنان، بعد عقدٍ على اندلاع الأزمة السورية، وفق التقديرات الرسمية نحو 46 مليار دولار، مقابل دعم دولي لم يتخطَّ الـ8.7 مليارات دولار. في الموازاة، يُستهلك احتياطي مصرف لبنان لدعم السلع والمواد النفطية والغذائية الأساسية، والتي يستفيد منها كلّ مقيم في لبنان، بدءاً من «ربطة الخبز»، بحيث تذهب أموال المودعين واللبنانيين من خلال سياسة الدعم الى النازحين السوريين أسوةً بالمواطنين، من دون اتخاذ الدولة اللبنانية أو المنظمات الدولية المعنية أي إجراء تجاه هذه المسألة، في حين أنّ ترشيد الدعم لبعض السلع لو حصل قبل سنوات وحُصر باللبنانيين لكان أمكن الاستمرار فيه لمدّة أطول.
على رغم أنّ ملف النزوح السوري إنساني وشائك، وتتداخل فيه دول عظمى ومصالحها، إلّا أنّ لبنان أخفق في إدارته منذ بدء النزوح، جرّاء الانقسامات والمزايدات السياسية الداخلية، الى حين بات الآن عاجزاً أمام الكلفة الهائلة لهذا النزوح، وأمام تأمين عودة النازحين الى بلدهم بعد أن باتت هناك مناطق شاسعة آمنة في سوريا. ولم يُحسن لبنان استخدام النزوح ورقة ضغط على الخارج، في ظلّ تخوف الدول الأوروبية من وصول النازحين الى شواطئها، بل بات النزوح ملفاً ضاغطاً عليه مالياً، واقتصادياً، وديموغرافياً، واجتماعياً. ولا شك في أنّ رفع الدعم عن المواد الأساسية إذا حصل سينعكس على جميع المقيمين في لبنان، لكن الأمم المتحدة، وعبر المفوضية العليا لشؤون اللاجئين (UNHCR)، ستتولى دعم النازحين وتمكينهم من الإستمرار، فيما أنّ المنافسة في سوق العمل بين اللبنانيين والنازحين ستزداد، مع الفقر والجوع والعوز، ما قد يؤدّي الى صدامات بين الطرفين، وفق ما تؤكد مصادر مسؤولة معنيّة.
هذا فضلاً عن أنّ الدعم الدولي للمجتمع اللبناني المضيف لم يكن مرةً بمقدار الحاجات والمطلوب، وأتى مؤتمر بروكسل الخامس لـ»دعم مستقبل سوريا والمنطقة» من دون الطموحات والحاجات بنحوٍ عام، بحيث جمع 6.4 مليارات دولار من المانحين الدوليين فيما كانت الأمم المتحدة طالبت بـ10 مليارات دولار بهدف تقديم الدعم للسوريين والمجتمعات المضيفة للنازحين، فيما يعوّل لبنان على حصة كبيرة من هذا الدعم. وكان لبنان قد حصل من مؤتمرات بروكسل الأربعة السابقة على 8.7 مليارات دولار. ويشرح المشرف العام على خطة لبنان للاستجابة الى الأزمة الدكتور عاصم أبي علي لـ»الجمهورية»: «انّنا في كلّ عام نرسل طلباً أو مناشدة للمانحين في مؤتمر بروكسل، وإنّ الدعم الذي حصلنا عليه مهمّ لكنه غير كافٍ، لأنّ التكلفة أعلى بكثير، ولم يتخطّ الدعم نسبة 50 في المئة من الطلب، فيما أنّ الحاجات تزداد يومياً وإمكانات الدولة اللبنانية تقلّ». ويضيف: «نحن نحتاج الى مساعدة المجتمع الدولي. لقد تحمّلنا أعباء مباشرة وغير مباشرة من وجود النازحين في لبنان عبر السنوات الماضية تفوق الـ40 مليار دولار من نفقات مباشرة وأكلاف غير مباشرة».
لبنان ذهب الى «بروكسل 5» الذي عُقد افتراضياً، بطرح موحد مرتبط ببناء شبكة أمان وحماية إجتماعية للمجتمعات المستضعفة والفقيرة بصرف النظر عن جنسيتها، إن كانت من فقراء لبنانيين أو سوريين أو فلسطينيين. وطالب بمقاربة الحاجة من منطلق الحاجة بعيداً من التمييز والتفرقة بين جنسية وأخرى، بحيث باتت هناك حاجة ملحّة لتأمين الأمن الغذائي لمجتمعات كبيرة من اللبنانيين والنازحين السوريين، والى بناء حماية اجتماعية حقيقية للمواطن اللبناني وللنازح السوري، للحد من العنف والتطرف والجنوح نحو السرقات والممارسات الخارجة عن القانون، إذ أنّ 60 في المئة من المجتمع اللبناني بات تحت خط الفقر ونحو 90 في المئة من مجتمع النازحين تحت خط الفقر المدقع، وهذه أرقام تُنبئ بالخطر وتستوجب الالتفاتة الدولية الى لبنان، بحسب وزارة الشؤون الإجتماعية.
وتتنظر الوزارة معرفة حصة لبنان من الدعم الموعود في «بروكسل 5»، من نائب سفير الاتحاد الأوروبي لدى لبنان الذي سيزور وزارة الشؤون الاجتماعية الثلاثاء المقبل ويُطلع الجانب اللبناني على هذه التفاصيل والأرقام. ويقول أبي علي: «نعلم أنّ أزمة «كورونا» تؤثر في الدعم، مع ذلك إنّ الرقم الذي خرج به مؤتمر «بروكسل» ليس أقل بكثير من نتيجة هذا المؤتمر العام الماضي، وقد يحصل لبنان على حصة كبيرة من هذا المبلغ لأنّ الحاجة في لبنان أكبر من حاجات الدول الأخرى المضيفة للنازحين».
ويضيف أبي علي أنّ «التكلفة الحقيقية للنزوح السوري على لبنان لا يُمكن تقديرها»، لافتاً الى أنّ «هناك ضغطاً على المواد المدعومة، التي يشتريها السوري أسوةً باللبناني، وهذه تكلفة كبيرة تقع على عاتق الدولة اللبنانية، أي فارق الدعم، وتقع ضمن الأكلاف غير المباشرة للنزوح التي لا يمكن تقديرها». هذا علماً أنّ النازحين السوريين يشكّلون ثلث سكان لبنان، الذي يستضيف أكبر عدد من النازحين السوريين نسبة إلى عدد سكانه بحسب مفوضية اللاجئين، وتقدّر الحكومة اللبنانية وجود 1.5 مليون نازح سوري على الأراضي اللبنانية.
إزاء ذلك، وبعد 11 عاماً على النزوح السوري الى لبنان، وعدم القدرة على تحمُّل هذا «الوجود الموقت»، كما وصفه رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب في كلمته في مؤتمر بروكسل، يطمح لبنان الى عودة النازحين الى بلدهم، وعمل على ذلك سابقاً من خلال الأمن العام، وأقرّت حكومة دياب خطة لهذه العودة، لكنه لم يتمكن من تأمين عودة أكثر من بضعة آلاف منهم. هذا وسط تجاذب متواصل حول جدوى التنسيق مع سوريا في هذا الملف، ففي حين تعتبر الجهات السياسية المعارضة أنّ «الرئيس السوري بشار الأسد الذي هَجّر شعبه وقتله لا يريد عودته، وأنّ التنسيق غطاء للتطبيع السياسي مع نظام الأسد»، ترى الأكثرية الحاكمة وفي مقدّمها «حزب الله» أنّ هذا التنسيق ضروري.
لكن على رغم بدء هذا التنسيق من خلال زيارات الوزير السابق لشؤون النازحين صالح الغريب لدمشق، وبعده وزير الشؤون الاجتماعية رمزي المشرفية، إلّا أنّ أي نتيجة لم تظهر من هذا التنسيق بعد، فالحدود اللبنانية ـ السورية مقفلة في وجه عودة النازحين بقرار من الحكومة السورية بسبب «كورونا». لكن على رغم ذلك تعوّل مصادر مشرفية على زيارته الأخيرة لدمشق حيث التقى عدداً من الوزراء السوريين، وعلى التزام الجانب السوري التعاون المطلق مع الجانب اللبناني في تأمين التحفيزات والتسهيلات المطلوبة كافة لعودة النازحين.
وتقول مصادر مشرفية: «إنّ التنسيق مع الجهة السورية ضروري لكي تؤمن التسهيلات القانونية والمادية اللازمة لتأمين هذه العودة. وعلى رغم القيود المفروضة بسبب «كورونا»، وعدنا بتسهيلات عدة الى حين فتح الحدود بنحوٍ أو بآخر». ومن التسهيلات السورية الموعودة لتحفيز النازحين على العودة: إلغاء تعرفة الـ100 دولار للنازحين العائدين والتي تفرضها الحكومة السورية على مواطنيها للدخول الى بلدهم، إعطاء مهلة سماح لسنة بالنسبة الى خدمة العلم أو الاستعاضة عنها ببدل مادي، إضافةً الى بعض المسائل القانونية التي تعوق دخول أولاد النازحين السوريين غير المسجلين، بحيث يُسمح بدخولهم الى سوريا ويُصار الى تسجيل هذه الولادات على الأراضي السورية. وانطلاقاً من هذا «الالتزام السوري» تكثّف الدوائر المعنية في وزارة الشؤون اجتماعاتها بالأمن العام ومفوضية اللاجئين لوضع هذه التسهيلات على طاولة التفعيل.