IMLebanon

النزوح… كارثة وطنية

للمرة الخامسة تجتمع المجموعة الدولية لمواصلة البحث عن سبل مساعدة لبنان في التصدي لتبعات الأزمة في المنطقة، لا سيما النزاع القائم في سوريا. ومن المعروف ان لبنان، المتمسك بالتزاماته الدولية، يكرر النداء إلى الدول المانحة للوفاء بتعهداتها، لا بل إلى مضاعفة مساهماتها المالية، وتقديم المساعدات المباشرة للمؤسسات الحكومية وللمجتمعات اللبنانية المضيفة، وذلك طبقا لخطة الاستجابة التي أطلقها لبنان بالتعاون مع الأمم المتحدة والتي تعلم مسبقا، بأن احتياجات لبنان كبيرة ومتزايدة وعدم تلبيتها ستؤثر عليه في شتى الجوانب الاقتصادية والانمائية وتهدده في تغيراته الديمغرافية.

كما تضع أزمة اللاجئين السوريين، الدول الأوروبية أمام تحد كبير يصعب مواجهته في ظل غياب أي أفق قريب لإنهاء الصراع الدائر في سوريا. ويحاول قادة الدول الأوروبية البحث بشتى الوسائل عن سبل تخفيف موجة النزوح التي كانت قد انفجرت منذ قرابة الشهرين وباتت تشكل عبئا كبيرا على الحكومات وعلى الاقتصاد وبدأت تضعف التقديمات الاجتماعية لمواطنيها. ومن بين الإجراءات المتخذة، زيادة الدعم للدول المجاورة لسوريا، التي لطالما اشتكت من ضعف هذا الدعم مع عدم التزام مجموعة «أصدقاء سوريا» بتعهداتهم المالية التي قطعوها في عدة مؤتمرات آخرها في الكويت.

ويحتضن كل من لبنان والأردن وتركيا أكثر من خمسة ملايين نازح سوري فارين من النزاع الدائر في سوريا، حيث اتخذت تلك البلدان المضيفة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، جملة من الإجراءات لتقليص عدد النازحين، على خلفية عجزهم عن تحمل المزيد من اللاجئين نظرا للأوضاع الاقتصادية الضيقة التي تواجههم. وها نحن اليوم نرى ان اعداداً قليلة من اللاجئين السوريين قد تدفقت نحو أوروبا باتجاه اليونان وهنغاريا وألمانيا وإنكلترا وفرنسا ومعها علت أصوات المواطنين المنددين بتلك التدابير التي تتخذها حكوماتهم، حيث بادر رئيس وزراء بريطانيا كاميرون، والذي يواجه ضغوطا كبيرة حول طريقة تعامله مع أزمة اللاجئين السوريين، بتقديم حزمة مساعدات جديدة بقيمة 100 مليون جنيه لمساعدة لبنان على تحمل أعباء النازحين وايقاف تدفقهم الى القارة الأوروبية. وأضحى معروفا أن كلفة اللاجئين في لبنان والبلاد المضيفة تجاوزت 7.7 مليار دولار وهي كلفة عالية لم يعد بمقدور اية دولة تحمل أعبائها والتي ترهق بدورها كاهل الاقتصاد الوطني وتضعف النمو وتزيد من نسب البطالة في صفوف المواطنين.

وكان رئيس الوزراء اللبناني تمام سلام قد صرح في مؤتمر صحفي عقده مع نظيره البريطاني لدى زيارته العاجلة الى بيروت قائلا إن «مشكلة النزوح التي وصلت إلى أوروبا هي ظاهرة لن تتوقف عن التمدد إلا بالتوصل إلى حل سياسي يوقف الحرب في سوريا». وهذا الرأي بدأت تعيه لندن التي طرحت مؤخرا مبادرة لحل الصراع تقضي ببقاء الرئيس السوري بشار الأسد في الفترة الانتقالية التي حددتها بستة أشهر، في انعطافة لافتة تعكس تصاعد المخاوف الأوروبية من تداعيات استمرار الأزمة السورية عليها، بما يعنيه ذلك من تواصل توافد أعداد اللاجئين إلى القارة العجوز، وأيضا تصاعد خطر التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها داعش. وكانت لندن متمسكة في السابق برحيل الأسد مع التأكيد على عدم بقائه في الفترة الانتقالية، باعتباره جزءا من الأزمة ولا يمكن أن يكون جزءا من الحل. وهذا التغيير في الموقف البريطاني المستجد تجاه ضرورة التسريع في العملية التفاوضية بين المعارضة والنظام، مع الإبقاء على الأسد في الفترة الانتقالية، يسجل اليوم لدى معظم الدول الأوروبية التي كانت معارضة لهذا التوجه. لذلك باتت الدول الأوروبية تخشى فعليا من الانعكاسات المباشرة لاستمرار الأزمة السورية وعلى خلاف السابق، باتوا يضغطون على الولايات المتحدة الأميركية كما روسيا لإيجاد حل وسط يتم من خلاله إنهاء الأزمة السورية. بالمقابل لا تبدو واشنطن راغبة في إنهاء الصراع الدائر، فيما موسكو تتخذ موقفا أكثر تشددا عن ذي قبل خاصة بتدخلها العسكري المباشر ولتكريس بقاء الأسد إلى ما لا نهاية، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من تعقيدات الأزمة السورية ويزيد من عدد اللاجئين السوريين مع ارتفاع منسوب المعارك في المناطق السورية.

ان تأثير الزحف اليومي لمئات النازحين والذي فاق إمكانات الدولة اللبنانية الاقتصادية بالإضافة إلى الضغوط الأمنية على الحدود والاستنفار الدائم للجيش لتأمين سلامة النازحين عدا عن التحديات الأمنية القائمة في الداخل اللبناني نتيجة لبعض الأعمال التي يقوم بها بعض النازحين والتي وصلت إلى حدها غير المسبوق يسبب مزيدا من التعقيدات في السياسة الداخلية والتي تواجه معضلات عدة. وتبقى تعقيدات الملف السوري وتأثيره الكبير على لبنان في جميع الجوانب التي تبدأ بالاقتصاد ولا تنتهي عند الأمن الذي يفرض على لبنان تغييراً جذرياً في سلوكه السياسي بسبب موقعه الجيوبوليتيكي مع سوريا والذي يفرض على النظام السياسي اللبناني انتهاج براغماتي وتغليب المصالح الوطنية والعمل على حفظ الأمن والاستقرار الداخلي للحفاظ على تماسك الدولة اللبنانية التي لديها ما يكفيها من مشاكل اقتصادية وبيئية واجتماعية.  ولا بد من العمل بسياسة التوازن الاستراتيجي بين الالتزامات الدولية والتحالفات التاريخية مع الغرب ومصالح الدولة اللبنانية بالإضافة إلى القرار الشعبي بتقديم أقصى ما يمكن للشعب السوري الجريح لتشكيل مثلث متساوي الأضلاع والذي يربط هذه الجهات بلبنان.

في المقابل ان حجم الطلب على الموارد الطبيعية ومنها المياه قد ارتفع بنسبة 56% بشكل عام وأن الحاجة للمياه لا تلبي بشكل كامل في معظم المناطق اللبنانية، بينما ارتفعت شكاوى الصرف الصحي إلى 400% و500% في معظم المناطق اللبنانية مع زيادة مطردة لحجم النفايات المنزلية، مما يزيد من كلفة الصيانة على الدولة ويخفض حصة الفرد من المياه بشكل عام. كما أن حجم تمويل المطلوب من الأمم المتحدة والصليب الأحمر من أجل سوريا ودول الجوار قد بلغ 7.7 مليار دولار في عام 2014، وقد ارتفع إلى 8.7 مليار دولار في 2015، وقد أُعلن عن ذلك في مؤتمر الكويت، وهذا ما تحتاجه دول الجوار لتأمين حاجات اللاجئين السوريين، ودعم البنية التحتية التي بدأت تتآكل فهل من ممول؟.

لا شك بأن أزمة اللاجئين السوريين تحتاج الى تضافر الجهود الدولية لتأمين احتياجات اللاجئين الانسانية، ففي دراسة للمنظمة الدولية لشؤون اللاجئين والتي أوضحت بأن نسبة تمويل نداءات الأمم المتحدة والصليب الأحمر من كل سوريا ودول الجوار في الربع الأول من العام 2015 قد بلغت فقط 9.8 % من المبلغ المطلوب، بينما حصلت تلك الجهات على 62.5% من مجمل المبلغ في عام 2014. ومع كل ذلك، يبدو أن كفّة هذا التوازن السياسي الدقيق بدأت تنقلب ولكن ليس لصالح لبنان، حيث أصبحت احتمالات التوصّل إلى حلّ للصراع السوري بعيدة المنال أكثر فأكثر، ولم ينتهِ تضخّم عدد اللاجئين السوريين، ويزداد معه استياء الرأي العام على الحكومة. لقد كشف النزوح السوري وما سببه من زيادة سكانية حادّة ناجمة عن وصول اللاجئين، عن شروخٍ عميقة وقائمة منذ فترة طويلة في البنية التحتية السياسية والاقتصادية والاجتماعية اللبنانية. وبما أن النمو السكاني الهائل يرهق قدرات المجتمع المضيف، فقد ألقى وجود اللاجئين السوريين الضوء على بعض أكبر التحدّيات المعاصرة في هذا البلد الصغير. إذ يشير عدد واسع من التقارير إلى تأثير اللاجئين السوريين على موارد لبنان المستنفَدة، وزيادة المنافسة على فرص العمل، وتحميل البنية التحتية فوق طاقتها، وإرهاق الخدمات الاجتماعية، مثل الرعاية الصحية والتعليم.

ومع تنامي مشاعر الإحباط العام، يتم تأطير الصراع السياسي أكثر فأكثر باعتباره صراعاً ضدّ الحرمان من الحقوق الاجتماعية ومحاربة الفساد. ولا ريب أن هذا يتناقض مع الصراعات السياسية الداخلية والتاريخية، والتي تميّزت في الأصل بكونها صراعات بين الاحزاب السياسية. وقد عجّل التضخمُ السريع في أعداد اللاجئين السوريين ظهورَ حراك مدني يعتبر نفسه بأنه مهمش ولديه مطالب محقة وهو قادر على تحريك الشارع وأن له القدرة على تهديد استقرار الهيكل السياسي الحالي.  وتجدر الإشارة إلى أن كل تلك التحدّيات التي أبرزها اللاجئون لها جذورٌ عميقة في النسيج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في لبنان. والواقع أن عدد اللاجئين السوريين لم يسهم إلا في تفاقم تحدّيات مزمنة كانت موجودة مسبقاً، وقد تكون إرهاصات لعدم الاستقرار في المستقبل.

يحدّ الشعور العام السلبي تجاه اللاجئين السوريين من قدرة الحكومة اللبنانية على الاستجابة للأزمة. ومع ارتفاع حدّة التوتّر، فقد دعا اللبنانيون الحكومة إلى الحدّ من منافسة اللاجئين السوريين لهم. وبدءا من عام 2015، استجابت الحكومة اللبنانية للإحباط العام الصريح والواضح أكثر فأكثر ولتزايد المخاطر الأمنية الإقليمية عن طريق الحدّ من حفاوتها تجاه اللاجئين السوريين. وقد توتّرت العلاقة التي اتّسمت في السابق بالتعاون بين مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وبين الدولة اللبنانية، عندما فرضت الحكومة اللبنانية قيوداً على عدد السوريين الذين يمكنهم أن يدخلوا البلاد، وأغلقت المعابر الحدودية التي يمكن الوصول إليها.

وبعبارة أخرى، يبدو أن المسؤولين اللبنانيين استنتجوا أن الفوائد السياسية الأولية لاستضافة اللاجئين السوريين قد تضاءلت، وأن الوجود السوري المتزايد في هذا البلد الصغير قد يهدّد الاستقرار الوطني، لأن القلق اللبناني اليوم اتجه نحو خطر جديد وقد التمسه دولة الرئيس تمام سلام لدى زيارته نيويورك ومن خلال اللقاءات والخطابات التي سمعها والتي تفيد بأن لبنان ليس من الأولويات، وهو غير موضوع على أجندة المعالجات الطارئة، وأن المجتمع الدولي قد تخلى جزئيا عن المساعدات المالية وهو يتملص من الوعود بالمساعدات العينية التي كانت قد أقرت له, مما سوف يسبب حكما مزيدا من الضغوط التي سوف يُفرزها اللاجئون السوريون على كل المجتمعات المضيفة وخاصة لبنان الذي يضمن منها الحصة الكبرى. وبهذا، على الحكومة اللبنانية معالجة هذه الكارثة الوطنية على طريقة «قبع شوكك بأيدك»…

* خبير مالي ومحلل اقتصادي.