تقدّم الكويت استراتيجيّة مختلفة، النزوح لم يعد رقماً، بل قضيّة. إعتاد المعنيّون على تقديم أرقام من البشر، مقابل الحصول على أرقام من الدولارات.
إختلفت المعايير والمقاربات، هناك تحوّل سيفرض نفسه على اجتماعات مؤتمر الدول المانحة وكولساته، وهو ثالث من نوعه تستضيفه الكويت منذ عام ونصف العام. ما قدّمته خلال المؤتمرين السابقين من أفكار وطروحات أخذ طريقه الى المنتديات الدوليّة، والمنظمات المتخصصة، ومراكز البحوث والدراسات.
وتقديراً، أعطيت مكانة على المستوى الدولي للإمساك بهذا الملف نظراً لِما ينطوي عليه من تحديات عميقة ومتشعّبة. وبناء عليه، قدّم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، نيابة عن المجتمع الدولي، أرفع شهادة تقدير الى الأمير الشيخ صباح الأحمد الصباح.
تنطلق الدول المانحة من خلفيات ضاغطة، أوّلها أنّ مراكب الفوضى والعشوائيّة التي تغالب الأمواج العاتية، وتحمل العشرات، لا بل المئات، من المشرّدين الهاربين طالبي اللجوء، قد خرجت فعلاً عن قواعد الإنضباط المألوفة.
هناك مأساة إنسانيّة، المئات منهم لا يصلون بل يذهبون الى جوف البحار، تجرفهم التيارات والأمواج العاتية، ومن يصِل إنما يحمل معه الأعباء الأمنيّة والإقتصاديّة والصحيّة والإجتماعيّة والمعيشيّة والتربويّة.
هناك مجتمع وافد دخيل يفرض حضوره وأثقاله على الدولة المضيفة رغماً عنها. ظاهرة كانت حتى الأمس القريب منضبطة الى حدّ ما ضمن قواعد الإحتمال، قد خرجت منذ عام ونصف العام عن حدود المألوف، لتتحوّل مشكلة جديّة معقّدة.
الملاحظة الثانية: انّ الإرهاب الوافد لم يعد حكراً على الذين ذهبوا الى ساحات الجهاد في سوريا، او العراق، او ليبيا، وعادوا الى أوطانهم ليمارسوا ثقافة التوحّش، بل توسّع وتفرّع ليشمل المغامرين المحمولين على أكتاف الأمواج العاتية المنتقلين من المجهول الى المجهول، وبعض هؤلاء مَن تتملّكه ثقافة العصابة، ومزاجية القتل والسحل والنهب والسرقة والميل الى قيام «دويلة المافيا» داخل الدولة المضيفة. يملك الغرب ملفات، وتقارير تحتاج الى حكومات متفرّغة لتطبيع الواقع الوافد، مع الواقع المقيم ضمن بيئة القانون والعدالة الإجتماعيّة.
الملاحظة الثالثة: انّ نظرية «دولارات مقابل مخيمات» قد سقطت من حسابات الغرب، لم تعد لديه القدرة، ولا حتى الطاقة، لأنّ المضاعفات الناجمة أخطر من السطحيّة العشوائيّة.
التحدّي الأول مرتبط بطبيعة الأرض التي تشكّل منطلقاً للنزوح، هجر المواطن العادي المعروف بحسبه ونسبه، والمقبول ضمن بيئته وجيرته، ليحلّ مكانه «رفيق السلاح» الذي جاءت به الأقدار من رياح الأرض ليحلّ مكان الأصيل الهائم على وجهه بحثاً عن بعض من أمن واستقرار، وعن شيء من كرامة إنسانيّة.
إنّ بيئات «داعش» و«جبهة النصرة» و«دولة الخلافة» لم تعد مجرّد تسميات مقولبة ضمن حروف الكلمات، بل أصبحت واقعاً قد يستمر من دون الخوض في تأثيراته وتداعياته المستقبلية على المصالح. إنّ أيّ تحدّ من هذا الحجم لا يحمل على الإطمئنان، ويستدعي كلّ بحث ودرس واهتمام وصولاً الى معالجات مضمونة الجوانب.
والتغيير البيئي لا يقتصر على الهوية، ولون البشرة، أو على المساحة المقتطعة من الأرض، بل على التنوّع الذي يشكّل الغنى المعنوي للأوطان ومستقبلها. نظرة الغرب أنه لا يمكن الرهان على الديموقراطيّة في مجتمعات رَضعت التبعية والمحسوبية والفئوية والطائفيّة مع الحليب؟!.
أخطر ما يواجهه الغرب ليس «داعش» كعنوان ملازم للنزوح، بل المجتمعات التي تتقبّل فكرة «الداعشيّة» في مكان ما، ولَو بحدود ضيقة جداً. وإذا كانت ثورات «الربيع العربي» قد تركها المجتمع الدولي على عواهنها لفترات من الترقب والإنتظار، فإنّ التداعيات الناجمة، والتي تحوّلت تحديات فعليّة، قد دفعته الى الإهتمام جديّاً بالوسائل التي يمكن ان تساعده، او تمكّنه من الإمساك بزمام الأمور، وإعادتها تحت السيطرة.
ليس في مؤتمر الكويت أرقام فقط، بل ملفات ودراسات تأخذ النزوح بتحدياته الأمنية والإجتماعية والإقتصادية التي تقلق المجتمع الغربي وتقضّ مجتمعاته.
يقول أحد السفراء: «لقد أرسل الغرب قذائفه وحممه وتقنياته ليساهم في توسيع رقعة الخراب والدمار وتعميمهما ضمن حدود مقتضيات مصالحه، وإذ به يفاجأ بأنّ الثورات التي اجتهد في دعمها، قد أصبحت ناضجة لتصدّر له عبوات بشريّة ناسفة؟!».
قد يحمل رئيس الحكومة تمام سلام، والوفد المرافق، رقماً ليعود برقم، إلّا أنّ مؤتمر الكويت الثالث للدول المانحة تخطى الأرقام ليخوض في استراتيجية «التعبئة الدوليّة المستنفرة» والهادفة الى تكريس النزوح ضمن مربّعات الاستقرار الحضاري التي تستحقّه الدول الديموقراطيّة؟!… قد يكون في المعالجة شيء من الفئوية والعنصريّة، لكنّ منطق الكبار يبقى دائماً هو الأقوى.