العودة ليست خلال أيام أو أشهر أو ربما سنة
14 سنة أمضاها الشعب السوري بعيداً من بلاده. 14 سنة ولدت خلالها أجيال، كبر أطفال، نضج شبان، وشاخ رجال. 14 سنة بدّلت مزاج شعبين في دولة واحدة. حتى في القرى التي فتحت ذراعيها لاحتضان النازحين، صاروا عبئاً على مجتمعاتها، وأمنها، ومدارسها، ومياهها، ومطامرها، واقتصادها.
14 سنة “حمل فيها لبنان من عبء النزوح السوري ما لم يحمله أي بلد قريب أو بعيد”… وبعد 14 سنة، تحقق شعار الثورة السورية الأول… “سقط نظام بشار الأسد”، تبدّدت المخاوف، انهارت القيود، تحرّرت الألسن، خلعت أبواب المعتقلات، سرّح العسكر ومجنّدوه الإلزاميون. فهل تجمّعت للنازحين على الأراضي اللبنانية ظروف حزم الأمتعة للمغادرة؟ ومتى تقلب نهائياً صفحة هذا الملف؟
في الميدان لا تبدو الأجواء مبشّرة. ففيما كانت كاميرات وسائل الإعلام تترقب حركة العبور عبر نقطة المصنع الحدودية لرصد أعداد النازحين المغادرين إلى بلادهم، فقد تم رصد تدفق عشرات العائلات فعلاً، وإنما في الاتجاه المعاكس، ومجدّداً من سوريا إلى لبنان.
شيعة سوريا ردّوا الرجل فوراً
فبعد أن استقبلت منطقة “السيدة زينب” في سوريا النازحين اللبنانيين من أبناء البيئة الشيعية إثر توسّع العدوان الإسرائيلي إلى مختلف الأراضي اللبنانية قبل أسابيع، لم يتأخر سوريو البلدة من مؤيّدي النظام، في ردّ الرجل فوراً إلى لبنان. فتسرّبت بضع عائلات منهم منذ اليوم الأول لسقوط النظام نحو المراكز الحدودية اللبنانية الأمنية، ليستعيد تدفقهم بالمئات إلى معبر المصنع الحدودي يوم أمس، المشاهد الأولى لنزوح معارضي النظام قبل 14 عاماً.
إلّا أن المفارقة هذه المرّة، أن موجة النزوح السوري الثاني إلى لبنان، لم تقابل بتلك “الهبّة الشعبية” التي عبّرت عن التضامن مع معارضي النظام قبل 14 سنة. فخصوم النظام في لبنان والذي يؤيده النازحون الجدد، كثر أيضاً، وأما حلفاؤه في لبنان فلم يلملموا بعد جراحات العدوان الإسرائيلي على أرواحهم وممتلكاتهم. بينما الطرفان اللبنانيان متّفقان على أن يعلقا على شماعة النزوح نتائج كل إخفاقات سلطة بلادهم في معالجة تداعيات هذا الملف السياسية، والاقتصادية وحتى الأمنية، وهم بالتالي يستعجلون رحيلهم إلى بلادهم “ليرتاحوا ويريحوا”.
إذاً موجة العودة التي انتظرت من بوابة المصنع باتجاه دمشق، انقلبت نزوحاً ثانياً من سوريا باتجاه لبنان يوم أمس. وبمقابل العشرات الذين غادروا الأراضي اللبنانية في اليوم الأول لسقوط النظام يوم الأحد، تدفق إلى لبنان المئات يوم الإثنين. ومع مفارقة أخرى هنا أيضاً، وهي أن معظم مغادري الأراضي اللبنانية باتجاه سوريا في اليوم السابق كانوا من الرجال، الشباب منهم تحديداً، ممن أرادوا استطلاع أجواء بلادهم بعد سنوات من غربتهم القسرية عنها بسبب فرارهم من التجنيد الإجباري أو انشقاقهم عن الجيش النظامي. فيما النازحون بالاتجاه المعاكس، كانوا عائلات، جزء كبير من أفرادها سيدات وأطفال. وقد صعب التصديق أن هؤلاء تجرأوا على تخطي الإجراءات الأمنية على الحدود من دون أن يكون هناك من أوعز لهم بذلك أو أقله سهّل الأمر بما تسبّب في تصادم حتى بين الأجهزة المعنية. فتسربوا أفراداً ومجموعات إلى ما بعد عنبر الجمارك اللبنانية، بعدما اجتازوا مركز الأمن العام للدخول من دون تختيم جوازاتهم أو الاستحصال على أذونات بالمرور. استمرّوا بالتدفق تباعاً، حتى ضاقت بهم ساحة الأمن العام.
الضغط لتجاوز القرارات السيادية الحدودية
لم يكن الضغط الذي مورس على عناصر الأمن العام المولجين بحماية خط الدخول إلى لبنان، سهلاً. وعليه نجح بعضه في كسر القرارات الحدودية السيادية، ففك الحصار عن بعض المتجمهرين خلف نقطة الحاجز، وانقسمت العائلات بين جزء بقي خلفه وجزء ما بعده، وسط ضغوطات إضافية مارسها هؤلاء للم شملهم مع عائلاتهم على الطرف الآخر من الحاجز، وهو ما استدعى إحضار تعزيزات عسكرية إلى المنطقة. ومع ذلك صبر هؤلاء طويلاً وكلهم أمل أنهم بالصبر سينالون ما أرادوه.
سألنا بعضهم عمّا دفعهم إلى ترك بلدهم، ولماذا يهربون بينما الناس بدأت تتأمل بالعودة إلى سوريا، فبدا معظمهم مذعوراً من عمليات انتقامية لم يصدقوا بأن المرحلة ستمرّ من دونها.
ولكن ماذا عن الوجهة التي سيقصدونها، وهل يفترض أن يلاقيهم أي طرف لتأمين مراكز تأويهم؟ طرحنا السؤال على مجموعة منهم، وبعد عدائية واجهناها من قبل بعض المستطلعين، أجاب آخرون بنفي أي تنسيق مع أي جهة، إلّا أن إجابتهم بقيت مغمّسة بتطمينات حصلوا عليها من قبل أصدقاء. “فكما استقبلونا في بيوتهم، سنستقبلهم في قلبنا” كما قال أحدهم من دون أن يعرّف عن نفسه.
لا تفكيك قريب لتجمّعات النازحين
في الأثناء، ظهرت مخيّمات لاجئي موجة النزوح الأولى على طول السهل المؤدي إلى منطقة المصنع الحدودية، في حالة استرخاء. لا أخشاب مفككة، ولا شوادر يتم طويها، ولا حتى فرشات تحمّل على ظهر السيارات أو في الشاحنات. وإنما غسيل منشور على الحبال، رجال يسترخون تحت أشعة الشمس، أطفال يلعبون في الممرات الفاصلة بين الخيم، ونساء منهمكات بالتنظيف. هو مشهد اعتاد النظر على عبثيته منذ 14 سنة، لم يتغير فيه شيء، وإن لم تسمح القرارات الإدارية والسياسية بتطوّره أيضاً. حتى الفراغات التي نتجت في بعض التجمعات عن إخلاءات قسرية، فقد ملئت بأفواج جديدة من النازحين، بعضهم ممّن فرّ من العدوان الإسرائيلي على بعلبك والجنوب، وأصرّ على الاستقرار بلبنان على العودة إلى بلاده. وفي جميع الأحوال كان ذلك مكسباً إضافياً لمؤجري المساحات الزراعية التي غزتها الخيم والشوادر، بعدما رفع هؤلاء أيضاً بدلات هذه الإيجارات بنسب مختلفة منذ بدء الأزمة اللبنانية، وتمسّكوا برزقتهم التي أتت من حاجة عائلات إلى خيمة فوق رؤوسهم.
سقوط النظام قد لا يكون كافياً للعودة
لا بدّ أن تعود هذه الأراضي الزراعية إلى وظيفتها إذاً بعد عودة النازحين إلى بلادهم. ولكن فلنسأل أولاً “الباركين” في خيمها، متى موعد حزم الأمتعة؟
“ليس قريباً”… هي عبارة ترددت على أكثر من لسان، لتتفاوت المهلة المحددة بين ثلاثة أشهر أو ستة أو حتى سنة، أو ربما تبقى مفتوحة إلى حين استقرار الأمور داخل سوريا.
ولكن ألم يكن مطلبهم الأول سقوط النظام، الثاني إلغاء التجنيد الإجباري، والثالث إسقاط التعقبات الأمنية؟ ألم يكن الحديث عن العودة الطوعية مقروناً بعبارة “آمنة” فقط؟ تتفاوت الإجابة هنا وفقاً للمواقف السياسية من النظام. فمؤيدو النظام ليسوا مطمئنين للعودة. هم يخشون الانتقام كما يقولون.
أسباب للبقاء بلا وطن
أما من أيّدوا إسقاط النظام فمتفائلون. “كابوس وراح” يقول أحدهم. فماذا إذا عن الخطوة المقبلة؟ ليس لدى هؤلاء تصور واضح. ثمة منازل في مختلف محافظات سوريا محيت آثارها. وبالتالي هم ليسوا واثقين بأن سوريا ستكون قادرة على احتضان جميع أبنائها، وتؤمن لهم احتياجاتهم الأساسية، أقله ليس قبل أن تبدأ المساعدات الدولية بشق طريقها إلى بلادهم. فيقول أحدهم “سوريا تحتاج إلى كل شيء من الألف إلى الياء”. فيما يتحدث معظمهم عن مناطق ربما تحتاج لإعادة بنائها من الصفر. وبالتالي يسألون عن موعد إلغاء العقوبات الاقتصادية التي دفع الشعب السوري ثمنها، وهل سيتم ذلك قبل توضّح الأمور سياسياً وأمنياً وحتى مالياً. تقلقهم التفاصيل، ومنها ما يتعلق بالعملة التي سيتداولونها في المرحلة المقبلة، هل هي العملة نفسها التي تحمل صور النظام الساقط؟ وماذا عن مخططات التقسيم التي يتمّ تبادلها. هل ستترجم على أرض الواقع؟ وهل تسبق ترجمتها عودتهم، أم أنهم سيعيشون مخاضها؟ وماذا عن المناطق التي لا تزال تعاني التوترات الأمنية، وحتى العشائرية؟ وأي سلطة سيلجأون إليها لنيل حقوقهم إذا ما تم الاعتداء عليها، وماذا عن أوراقهم الثبوتية، عن السندات العقارية ودوائر النفوس، وماذا عن أولادهم الذين ولدوا في لبنان، هل سيتم الاعتراف بسجلاتهم اللبنانية؟ هذه وغيرها كلها أسئلة تطيل أمد بقائهم بلا وطن، إلى حدّ يجعلهم قلقين حتى من فكرة هذا الوطن.
لا غنى عن اليد العاملة
إلّا أنه بمقابل كل ذلك ثمة أسباب قوية تجعلهم أيضاً يرغبون في العودة إلى بلدهم “اليوم قبل غداً”. يقول أحدهم “صرلي 13 سنة ما شفت أهلي، ابوي مات ومرض السنة الماضية وما صرلي ودعه.” هذه كانت أسباب متقاطعة لدى كثيرين أيضاً ممّن غادروا الأراضي اللبنانية، الرجال منهم تحديداً. هم منشقون عن الجيش السوري ومطلوبون للتجنيد الإلزامي، تذوّقوا طعم الحرية، وحملتهم على أجنحتها إلى سوريا. ولكن جناحهم بقي مكسوراً بعائلاتهم التي خلفوها في لبنان، والتي يقول أحدهم “خفنا ناخذهم معنا ونتسبب ببهدلتهم”. ولذلك أصرّ كثير منهم على التأكد من أن عودتهم إلى لبنان بعد مغادرتهم متاحة وعبر المعابر الشرعية. فإذا كانت حدود بلادهم “فالتة” وليس عليها من يحميها، فإن الأجهزة الأمنية في لبنان حرصت على تطبيق الإجراءات المعلنة منذ ما قبل سقوط النظام في سوريا. وبالتالي ما زالت هذه الإجراءات تمنع دخول السوريين من غير حاملي جوازات السفر الأجنبية أو الجوازات الدبلوماسية، أو ليست لديهم إقامة في أي دولة خارجية. ومع أن هذا القرار خرق تحت ضغط اجتياح نقطة العبور من قبل مؤيدي النظام في اليومين الماضيين، فهو لا يشكل ضمانة كافية بالنسبة للنازحين المقيمين بلبنان بأن خروجهم عبر الحدود النظامية، سيكفل لهم عودة بالطرق نفسها. ولذلك يقولون إنهم لن يغامروا الآن بفرصتهم في البقاء بلبنان، أقله حتى تتبدل الإجراءات بما يسهل العودة، متوقعين أن يطول الأمر إلى ما بعد فصل الشتاء، والفصل الدراسي بالنسبة للأولاد. ومن ثم قد يضطرون للمغادرة والعودة مجدداً للعمل، وإنما لوحدهم، كما كانوا يفعلون سابقاً. وهم واثقون أنه أياً كان انزعاج اللبنانيين من وجودهم، لا يمكنهم أن يتخلوا عن يدهم العاملة، لا في الأراضي الزراعية، ولا في البناء. بينما لبنان وسوريا مقبلان كما يقولون على مرحلة واسعة من إعادة الإعمار، التي يعتبرها هؤلاء فرصتهم للعمل واستعادة ممتلكاتهم وحياتهم السابقة.
أقله لن يعود اسمهم لاجئين
أما إذا تطورت الأمور لترحيل قسري لهم، فلا بأس. ويقول أحدهم، “فنحن اليوم بتنا متأكدين على الأقل، أن من سيرحل لن تواجهه أي عملية اعتقال أو مضايقة في سوريا”. وهذا بحد ذاته مبعث للراحة بالنسبة لهم. ولكنه لا ينفي أن تمسّك النظام السوري بمكاسبه التي حققها بقوة خارجية على شعبه في السنوات الماضية، راكم الخسارات على هذا الشعب. يقول أحدهم “يكفي أن هناك أجيالاً من أولاد سوريا بقوا أميين، وهؤلاء ليس لديهم أي فرصة باستعادة سنوات طفولتهم، وما سيواجههم في سوريا قد يكون أكثر ظلماً”.
لا بد أن يكون للجيل الذي كبر في لبنان هواجسه المختلفة. وخصوصاً من أسعفه الحظ بإمكانيات أوفر من تلك التي حاصرت حياة المقيمين في المخيمات. تعرفنا إلى شابتين من هؤلاء. مع أننا عرفناهما من أسلوب لباسهما المميز للسوريات، تؤكدان أنهما ستشعران بالغربة في “بلدهما” القلمون، كما شعر أهلهما عندما حضروا إلى لبنان. “فهناك الانتماء بالقلب وهناك الانتماء بالهوية، ولبنان سيبقى في قلبنا، إلى أن نقع بحب سوريا مجدداً” كما قالت إحداهن. بالنسبة لهما كل شيء سيبدأ من الصفر. ستخسران فرصتهما بمتابعة الدراسة مع أصدقائهما اللبنانيين، وأسلوب العيش الذي اعتادتاه. ولكن لا بأس تقولان “سنعتاد”. المهم أنه في بلدهما ستسقط عنهما صفة اللاجئ، هذه الصفة التي شكل تنميط صورتها المقرونة بالمخيمات تنمراً بالنسبة لمن لا يقيمون في هذه المخيمات.
ولكن مجدداً متى يحين موعد هذه العودة؟ وهل ستحتاج إلى جولة ثانية من ذلك “النقار” الذي تكثف في المرحلة الأخيرة مع الهيئات المانحة. وأي دور ستلعبه هذه الهيئات، وخصوصاً المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في تحفيز السوريين على الذهاب إلى بلادهم، وهل تحققت برأيها ظروف العودة الطوعية والآمنة التي ربطت بها هذه العودة…؟ ربما تحتاج بلورة الصورة بشكل أفضل إلى أيام إضافية… فلننتظر، ونحكم.