ها قد وقع الطلاق بين عشّاق الأمس أي «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، وانقلب التفاهمُ بينهما حول صغائر الأمور قبل كبرياتها، إلى نزاعاتٍ جوّالة على جدران التواصل الاجتماعي، و«أشجاره»!
لم يحتج الاتّفاق الذي استعان بأسابيع وأسابيع من المفاوضات الماراتونية بين الرابية ومعراب، الى كثير من الجهد لكي يصيرَ خصومةً شرسة لا توفّر ستراً مغطى. كان يكفي أن يرفع وزراءُ «القوات» صوتهم اعتراضاً على طاولة مجلس الوزراء، ضدّ الوزراء العونيّين، طالما أنّ حدودَ التمايز بينهم وهميّة، كي يُدقّ الإسفين الأول في نعش تفاهمٍ انتظره المسيحيون عقداً من الزمن واعتقدوا أنّ خصمَي التاريخ والجغرافيا سيلتقيان عند خطّ المصالح المشترَكة لأبناء طائفتهما.
هكذا، تحوّل التنافس الإيجابي، المرحّب به، إلى مسرح ملاكمة غير مقبول. لا بل أكثر من ذلك، بينما انكفأت معراب عن جبهة القصف مستعينة بـ«التقية»، استعاد «التيار الوطني الحر» لعبة «القط والفأر» التي اعتُمدت لسنوات في النزاع العتيق، وأعاد «نبش» مفردات الخصومة لكي يشدّ عصبَ جمهوره عشيّة فتح صناديق الاقتراع.
صحيح أنّ السحرَ انقلب على الساحر، وأظهرت النتائج أنّ لغة الوعيد والتهديد لم تعد تستهوي المسيحيين وتلبّي طموحاتهم، ولكن بالنتيجة، كان من المستحيل إعادة إحياء العلاقة الثنائية بعد رجمها بحجارة النزاع على الأصوات التفضيلية.
بهذا المعنى، يُصنّف التوتر الحاصل راهناً حول الحصص الوزارية بين الفريقين، في كونه تكريساً لحال الطلاق التي وقعت، سواءٌ اعترف أصحابُ العلاقة في ذلك أم أنكروه، ودليلاً ثابتاً على أنّ المصالحة بُنيت على أرض رخوة أثمرت تفاهماً هشّاً، أدّى قسطه الى العلى مع وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وسرعان ما انفرط عقدُه.
ولهذا يقول أحدُ متابعي الشأن المسيحي إنّ التطورات أثبتت أنّ ما تمّ التفاهمُ عليه بين «التيار الوطني الحر» و«القوات» لم يكن إلّا اتفاقَ محاصَصة، لا تزال وثيقتُه قيدَ الكتمان، وما كُشف منه لم يكن إلّا صياغة إنشائية مكتوبة بعناوين فضفاضة، بينما كان ينتظر المسيحيون من لاعبَيهما الكبيرَين أن يُقدما على تفاهم استراتيجي يحمي مصالح المسيحيين على المدى البعيد. الأمر الذي لم يحصل.
إذ إنّ أهمّ بند كان يُفترض حصولُ التقاء حوله بين الحليفين هو قانون الانتخابات الذي اشتكى المسيحيون لسنوات من إجحافه بسبب القوانين المتعاقبة المفروضة عليهم، وإذ بالمصالح الفئوية تبعد بينهما مسافات وتحول دون الاتّفاق على قواسم مشترَكة تحمي مستقبلَ المسيحيين.
إلى ذلك، يعود إلى الواجهة بندُ تطوير النظام، وهو تحدٍّ سيواجهه المسيحيون عاجلاً أم آجلاً بسبب التطوّرات الإقليمية من جهة والتغيّر الديموغرافي الداخلي غير المؤاتي لمصلحتهم من جهة آخرى. ولهذا راهن كثيرون على تفاهم «التيار الوطني الحر» و«القوات» في لحظة تقاطع مصالحهما، على صيغة مشترَكة يستطيعان عبرها مواجهة هذه الإشكالية فيما لو طرحت في هذه المرحلة أو في مرحلة لاحقة، حتى لو كانا في اصطفافين مختلفين.
أما البند الثالث فهو متصل بالبعد الأمني، الذي يعني خصوصاً قضية النزوح السوري التي صارت أشبه بخاصرة رخوة في الجسم اللبناني، حيث كان أجدى بالمتفاهمين الجدد التوصّل إلى مقارَبة مشترَكة لهذا الملف من دون تحميله كثيراً من التبعات السياسية، خصوصاً وأنّ لكل فريق خصوصيّته واعتباراته المختلفة. لكنهما انكفأا أيضاً عن هذه الإشكالية.
أما البند الرابع، وهو الأقل صعوبة ويتعلّق بالأزمة الاقتصادية التي باتت مقلقة في ما يخصّ المالية العامة، وكان في إمكان المتحالفين أن يصيغا معالجة مشترَكة أو مشروعاً اقتصادياً إنقاذياً يمكن الانطلاق منه لتطويق الانهيار المالي.
أكثر من ذلك، نظر المسيحيون إلى التفاهم المسيحي بعين الغيرة البنّاءة من النموذج الشيعي في الثنائية، وأرادوا منه أن يكون على الطريق نفسه.
بهذا المعنى، تصير مضارُ الطلاق بين حليفَي الأمس، تكاد توازي فوائده وهي أيضاً ليست بقليلة. وفق أحد المتابعين يمكن تعداد المضار بالآتي:
ـ عودة التوتر الى الشارع المسيحي، ما يعني أنّ أبسط مباراة رياضية بين فريقين مسيحيّين تصير مشروع مشكلة بين الجمهور. وستعود المجمّعاتُ الطالبية وقاعاتُ الانتخابات فيها الى ساحات عراك يومي!
– تعريض المسيحيين لتجاذب الآخرين من المكوّنات الطائفية لاستقطابهم، سواءٌ من جهة الحلفاء الشيعة، أو الحلفاء السنّة، ما يضطر كلّ فريق مسيحي الى الاستعانة بحليفه المسلم لكي يحافظ على مكتسباته أو ليتمدّد نفوذاً. الأمر الذي قد يعرّض الحضورَ المسيحي في الإدارات العامة إلى التراجع بسبب الخلافات حول الحصص.
أما فوائد هذا الطلاق، فيعدّدها أحدُ المتابعين بالآتي:
– تحرير الساحة المسيحية من سطوة الحزبَين ونزعتهما الإلغائية، وقد بيّنت الانتخاباتُ النيابية الأخيرة أنّه لو قدّر للحليفين الجديدَين أن يقفلا الشارع المسيحي عليهما، لما قصّرا.
– تحرير الساحة المسيحية من تبعات فشل أداء المتفاهمين، فالكباش بين الحليفين من جهة وأيِّ فريق مسلم من جهة أخرى قد يحمّل المسيحيين كلّ أعبائه، فيما الفشل في الإدارة سواءٌ على المستوى المالي أو الاقتصادي أو حتى الإدارة العامة، سيتحمّل المسيحيون أيضاً كل مضارّه.
بناءً عليه، تقول الشخصية نفسها إنّ أرقام الانتخابات النيابية بيّنت بما لا يقبل الشك أنّ حالة الاعتراض على الساحة المسيحية ضدّ الأحزاب القائمة، الى تمدّد وانتشار، الأمر الذي قد يمهّد الطريق أمام نشوء خيار ثالث صار لا بدّ منه للخروج من حالة الثنائية.