عندما يُخاض في أمر قانون الانتخابات ينبغي عدم إغفال عامل الوقت. التصرّف كما لو أنّ المطلوب الاهتداء الى القانون الأفضل، لا يهمّ متى وكم من الوقت قبل الاستحقاق. فقد ظلّ يؤدي منذ نهاية الحرب، الى تداول المشاريع تفكّهاً، والمبارزة بين أكثرها تحديثية وبين أكثرها تمثيلية، ومحاولة أكل عقول الناس بالشطحات المبتكرة، الى ان يدهمنا الاستحقاق، فيعتمد أكثر القوانين اعتباطية، وأبعدها عن الدستور وعن المساواة بين الناخبين، وأقربها الى التقرير المسبق للنتيجة في معظم الدوائر. وتكرّر ذلك بشكل متفاوت خمس مرات بعد الحرب، الى ان أدّت هذه «العادة»، عادة الخوض في أمر قانون الانتخاب بشكل يستهون الجريان الزمني، ثم بشكل يستخدم الزمن كحجة ضاغطة لتمرير أي شيء، الى فساد العادة نفسها، وبعد أن اقترب الاستحقاق الانتخابي التشريعي قبل سنتين وليس ثمة من مشروع متفق عليه، وثمة التزام كابح بعدم العودة الى قانون الستين بأي شكل، وثمة انشطار حاد على خلفية مشروع «القانون الأرثوذكسي»، كانت النتيجة أنّ الاستحقاق نفسه طار، وتأجل الى الآن مرتين، والثالثة قادمة، والرابعة. ومع ان مسوّغ التمديد الذاتي للمجلس كان التمكن من اشباع مسألة القانون الانتخابي درساً، فمن الذي ما لا يزال أساساً يتذكره الآن؟ مشروع «قانون الانتخاب« ليس خبراً ولا حدثاً في الوقت الحالي، بعد أن قُتِلَ بحثاً!.
انتخابات الرئاسة في الموازاة. ليس هناك طبعاً نص دستوريّ يقول بأنه على النواب انتخاب رئيس جمهورية تحت طائلة ابطال نيابتهم، لكن كل ما في الدستور واضح بأن رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة وحامي الدستور ورمز وحدة البلاد وبالتالي لا يعقل أن ينتهي عهد ولم ينتخب الخلف، وكل ما في الدستور يعتبر أنه ليس هناك ما يتقدّم على انتخاب رئيس قبيل فراغ السدّة، وبشكل أكثر تشديداً في حال الشغور. مع ذلك كان طغيان فكرة عبثية وتعجيزية عن التوافق المطلق لانتخاب رئيس، واصرار مسوّقي هذه الفكرة على طرح اسم غير توافقي، وتعليق البلد على الاحتمال الصعب للتوافق المطلق على الاسم اللاتوافقي، والذي يعتبر الرئاسة اقطاعته بالفطرة، وغير المتبنى حتى بشكل جدي ممن يعجن الامور بهذا الشكل. وكان تطيير الجلسات النيابية عندما يكون الموضوع انتخاب الرئيس، والايذان بعقدها عندما يتعلق بالتجديد الذاتي للمجلس أو غير ذلك من الأمور. كل هذا هو من تبعات الكارثة الذهنية نفسها، المتمثلة في جعل التفاوض السياسي – والنظام اللبناني يقوم بالفعل على مقدار كبير من التفاوض بين الجماعات وبين العواصم -، غير مرهون بأمد، بما في ذلك المواقيت المحددة دستورياً، وما الدستور أساساً غير تلك المواقيت واحترامها؟.
الأمر نفسه يطرح بشكل آخر في موضوع النفايات. هنا المسألة لا تحتمل سنتي تمديد كما حصل للمجلس أو سنة وبضعة أشهر شغور كما حصل للرئاسة – والحبل على الجرار في الحالتين. هنا الموضوع يستفحل ساعة بساعة، ليس لأن انتخاب رئيس واقرار قانون انتخاب وانتخاب مجلس جديد موضوعات غير مهمة قياساً على موضوع النفايات كما يروّج بعض الفطاحل، بل لأنه جرى اعتماد القاعدة نفسها: طرح موضوع بصرف النظر عن عامل الوقت المحدد لمعالجة النافر وما لا طاقة للناس على تحمله. والموضوع هذه المرة يجسّد عامل الوقت بامتياز: فالزبالة بعد ساعة ليست نفسها بعد ساعتين، كماً ونوعاً وايذاء لصحة الناس والبيئة المحيطة. لا يمكن أن تؤجّل تجميع النفايات من الشوارع الى ان يتم التوصل الى أفضل حل بيئي ممكن، وبصرف النظر عن النسبية الزمنية لهذا الممكن. عبثي القول أنه ينبغي أخذ هذه النفايات المتراكمة مناسبة لاعادة انتاج لبنان أخضر مئة بالمئة، وعدم السماح لـ»هم» بتمييع القضية، وتضييع المناسبة. نعم صحيح: الحلول المطروحة عقيمة وترقيعية، لكن أولاً يبعد عن المواطنين الضرر المباشر الواقع عليهم بيئياً وصحياً، ثم يفتح الباب لصراع بيئي ممتد. «الغيرة على المناسبة» لدى بعض حركات «المجتمع المدني» شكل من أشكال التلوث الذهني. التضحية بالمناسبة وعدم الاستهتار بعالم الوقت كثيراً ما يكونان من علامات الرشد والجذرية الحقة في التعاطي، سياسياً كان أو مدنياً.
والسياسة، بيئية كانت أم غير بيئية، ليست «فن الممكن» بالمطلق، ليست فن الممكن غير المرهون بزمان، وليست أيضاً فن التهويل بالزمان لاقرار أي شيء أو طمر أي شيء، وانما للوقت قيمته. السياسة هي معرفة كيفية التعامل مع الوقت. وقت النفايات هو وقت بيئي – صحي – اجتماعي بالدرجة الأولى. وقت المؤسسات السياسية هو وقت دستوريّ أولاً. طرح الأمور دائماً كما لو انه ينبغي البحث عن حل النفايات في مجتمع المدينة الفاضلة، وعن رئيس وبرلمان المدينة الفاضلة، هو طرح عبثي ومدمّر. عندما تقرّر أمراً تقرّره في وقت محدّد. معنى ذلك أنه لديك وقتاً محدّداً للتداول في كل أمر، ومنه ما يتحدّد نصياً، كالدساتير والقوانين، ومنها ما يتحدّد عينياً: ترفع الضرر المباشر بسرعة، ولا تجعل الضرر المباشرة «مناسبة لتصحيح كل خلل». استبقاء النجاسات طمعاً في الطهارة الكاملة هو في أصل كل النجاسات.