ارتفعت التوترات الجيوسياسية الأسبوع الفائت بين روسيا وتركيا بعد ان اسقطت تركيا طائرة روسية على الحدود بين تركيا وسوريا. وجاءت التفسيرات معاكسة بين الطرفين، ففي حين قالت تركيا انّ الطائرة دخلت الأجواء التركية نَفى الروس هذا الأمر واتهموا تركيا بالقيام بعمل عدائي ضد روسيا.
استناداً الى كلام بوتين تعتبر عملية إسقاط الطائرة الروسية «طعنة في الظهر» قام بها شركاء الارهابيين، وأضاف انّ الحادث قد تكون له انعكاسات خطيرة على علاقات موسكو مع انقرة.
وجاءت الانعكاسات الاولية لهذه العملية هبوطاً في الليرة التركية بنسبة ١ في المئة مقابل الدولار، كما شهدت بورصة اسطنبول تراجعاً بمقدار ١,٤ في المئة يوم الثلثاء الماضي، علماً أنّ تركيا وروسيا يتمتعان بعلاقات تجارية قوية تنامت في السنوات الأخيرة على الرغم من الخلاف حول عدد من القضايا الأساسية ومنها ضمّ القرم من اوكرانيا والحرب الأهلية في سوريا.
لكن وعلى ما يبدو انّ الانتقام الروسي من هذه العملية سوف يكون اقتصادياً بحتاً، وسوف تنعكس هذه العملية سلباً على الاقتصاد التركي وفي مجالات مختلفة. وعلى رغم الاعتذار المبطّن للقادة الاتراك عن هذه العملية، يبدو انّ ميديديف وبوتين مصممان على الانتقام لهذه العملية مع توسيع الحظر على الواردات التركية وتوقيع مرسوم يحدد القيود ويحظّر رحلات الطيران بين البلدين لا سيما الرحلات السياحية الى تركيا.
والقرار الذي دخل حيّز التنفيذ فوراً تم تبريره على انه «تدابير رامية الى ضمان الأمن القومي لروسيا وحماية المواطن الروسي من الأنشطة غير المشروعة وتطبيق تدابير اقتصادية خاصة ضد تركيا».
لذلك لا بد من التطلع الى هذا الامر بجدية تامة لا سيما انّ انعكاساته الاقتصادية قد تكون كبيرة على تركيا كون روسيا ثاني اكبر شريك تجاري لها وهنالك اكثر من ثلاثة ملايين سائح روسي زاروا تركيا العام الماضي. هناك طرق عديدة يمكن لروسيا من خلالها ان تضرّ بالاقتصاد التركي، وقد تؤدي الى إلغاء مشاريع مشتركة بين البلدين وقد تفقد الشركات التركية حصتها من السوق الروسية.
كذلك الأثر سوف يترتب على قطاعات مهمة لا سيما الطاقة وتركيا تستورد ٥٥ في المئة من الغاز الطبيعي من روسيا و٣٠ في المئة من حاجاتها للنفط، كذلك مشاريع الطاقة ومشروع التيار التركي والطاقة النووية الذي سيبنيه الروس لتركيا.
وقد يكون من المستبعد ان يكون لهذا الحادث تأثير في المدى القريب على امدادات الغاز، انما اكثر ما يخشى منه هو تأثيره على المشاريع الطويلة الأجل. وليس من المستبعد ان تستعمل روسيا هذه الورقة كورقة مساومة، وقد فعلت ذلك مع اوروبا عندما هددت بقطع إمدادات الغاز عن المنطقة، واخيراً مع جارتها اوكرانيا، وهي مستعدة للقيام بذلك كلما حدث خلاف ديبلوماسي مع جيرانها.
والقطاع الثاني قد يكون السياحة، لا سيما انّ تركيا واحدة من الوجهات السياحية الأكثر شعبية بالنسبة للروس وتقييد السفر الى تركيا يمكن ان يضرّ بالاقتصاد التركي الذي يعتمد وبشكل كبير على السياحة ويستوعب حوالى ٢,١ مليون وظيفة، اي اكثر من ايّ صناعات اخرى مثل التعدين والصناعات التحويلية وغيرها…
امّا العلاقات التجارية بين تركيا وروسيا فيمكن ان تكون واحدة من اولى القطاعات المتضررة من الانتقام، والصادرات الروسية الى تركيا تشمل ما قيمته ٢٥,٢ مليار دولار طبقاً لإحصاءات التجارة الخارجية التركية، كما انّ تركيا تعتبر اكبر مستوردي القمح الروسي. كذلك انّ اي خطر روسي على استيراد المواد الغذائية التركية سوف يعني ضغوطاً متزايدة على الاقتصاد التركي الذي يصدر ما قيمته ٦ بليون دولار من أغذية ومنسوجات الى روسيا.
امّا في ما يختصّ بالمشاريع، فتركيا كلفت روسيا في العام ٢٠١٣ بناء ٤ مفاعلات نووية في مشروع قيمته ٢٠ مليار دولار كذلك مشروع Turk Stream بين الدولتين ومشاريع اخرى تبقى قيد التنفيذ، ونتيجة لِما سوف يتأتّى نتيجة العقوبات الروسية على تركيا. كل هذه الأمور وتبعاتها تنتظر تعليمات من الرئيس الروسي ڤلاديمير بوتين الذي أصرّ على اعتذار تركي لهذه العملية.
والمؤكد انّ ردة فعله سوف تكون اقتصادية بحتة، ومن غير المحتمل ان تردّ روسيا عسكرياً ضد تركيا باعتبارها عضواً في شمال الاطلسي والذي اعلن تضامنه مع تركيا ودعا الى التهدئة ووقف التصعيد.
لكن وضح اخيراً انّ الامور لن تتوقف على بعض التدابير المتعلقة ببعض القيود على الاستيراد، لأنّ بوتين أدلى بتصريح يوم الخميس الفائت انّ روسيا لن تنسى حادثة ٢٤ نوڤمبر وتعتبرها خيانة بشعة.
ووجب التذكير بأنّ العقوبات ستنعكس نتائجها على الطرفين، ويبدو الخطر اقوى في وسائل الاعلام منه في الواقع مع العلم أنّ بوتين لن يتراجع. والصراع مع روسيا أجبر المسؤولين الاتراك على مراجعة اولوياتهم لا سيما علاقاتهم مع اوروبا والغرب بشكل عام.
وترى تركيا نفسها متهمة امام المنظومة الدولية بمساعدة الدولة الاسلامية وتأمين تجارة النفط لها، ما يجعل من مهمتها شيء مستبعد، أقلّه في الوقت الحاضر ريثما تنجلي الأمور.
وحسب دميتري بيسكوف، المتحدث باسم بوتين، انّ «الظروف لم يسبق لها مثيل والعملية الملقاة على روسيا هي الاولى من نوعها. لهذا، فمن الطبيعي ان يكون رد الفعل متماشياً مع التهديد».
لذلك تبدو الامور لغاية الآن سائرة نحو التأزم، وقد تستعمل روسيا جميع الوسائل التي تمكنها من ترويض الاتراك من جرّاء هذه العملية وتدفعهم لمراجعة حساباتهم وتموضعهم، وتجبر اردوغان على التحرك سريعاً لمحاولة حلحلة هذا الوضع المتأزم. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هل انّ الحروب التي جرت قديماً بين الروس والامبراطورية العثمانية عادت تلوح في الافق؟ وهل انّ قيصر روسيا قادر على معاقبة تركيا بقدر استيائه؟