القمة العربية التي انعقدت في تونس في نهاية الأسبوع الماضي، على ما تضمنته من إجماع عربي على تأييد متجدد للقضية الفلسطينية بشعابها وشناغيبها القديم منها والحديث، تستأهل منا بعد انقضائها على «خير وسلامة» وقفة تتجاوز كل الشكليات والبروتوكولات لنغوص في غمارها بحثاً عن حقائق ثابتة وآمال وتمنيات خائبة طويلة المدى، مستمرة ومتفاقمة، ولا يبدو من صخبها المتداول والمستمر منذ إنشاء «مؤسسة» القمة العربية في العام 1946، والذي ملأ الإعلام بكل وسائله عن كل قمة سبق أن عقدت بسيل من الاستهجانات والاستنكارات لكل ما يشغل بال وأحوال الأمة العربية من شؤون وشجون، وقد انصبَّ ذلك كله بصورة تراكمية على المنحى الجديد الذي تنتهجه الولايات المتحدة برئاسة «الطيب الذكر» ترامب، بدءا من الإعلان المسبق عن رغبة أميركية معجّلة التفكير والتخطيط والتنفيذ، عنينا بها صفقة أو صفعة القرن، مرورا بالاعتراف الأميركي الفج والممجوج بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، مع اشارة إلى جملة من الخطوات العملية المشبوهة التي حاولت أن تلغي الكيان الفلسطيني، أرضا وشعبا وقضية ومؤسسات، من خلال ما أقدمت عليه الإدارة الأميركية من إلغاء «لمساعداتها» في الأونروا، وما تتعاون فيه إلى أقصى الحدود مع نتنياهو في تبادل مصالح انتخابية رخيص ومكشوف ما بينه وبين ترامب، مع إشارة غيرّ مشرفة لكل منهما إلى ما يعانيه في بلاده من اتهامات وملاحقات قانونية ومسلكية، ما زالت حتى الآن قيد الملاحقة القضائية.
ومن أهم المواضيع التي عالجتها القمة العربية واتخذت بصددها قرارات مستنكِرة ومستهجنة، لتصرفات ترامب غير المسؤولة، قضية الجولان التي وهبها ترامب إلى إسرائيل، مستبدلا لغة القانون الدولي بتصرفات السطو والسرقة الموصوفة، هكذا وبعملية تبادل مصالح انتخابية رخيصة، ومن خلال عقيدة متجذرة لدى الإنجيليين الأميركيين بنصرة إسرائيل انتصارا منهم لمبدأ يعتمدونه بأن عودة السيد المسيح إلى الظهور لن تحصل إلاّ بعد ترسيخ نشأة إسرائيل وتوطيد أسسها كدولة مستحكمة بالأرض الفلسطينية. استنكار واستهجان بأعلى درجات الحدّة والشدّة، أقوال عربية مسؤولة صادرة عن أعلى مستويات الاعتراض والاستنكار، أمر نؤيده ونتبناه من حيث المبدأ ونتحفظ عليه لجهة الأثر والفاعلية، وهو في الواقع وسيلة من وسائل الإعلام الناطق والمكتوب التي يستعملها الكتّاب والمعلقون السياسيون والمواطنون العاديون الذين ما زالوا يختزنون في نفوسهم وضمائرهم كثرة من الحماس والاندفاع والإيمان بقضايا الوطن العربي الذي لطالما كان لديهم طموح إلى رؤيته كيانا موحدا متكاملا بتعاون دوله وتكاتف أبنائه، إلاّ أن تطلعاتهم هذه أطفأتها الأيام والأحداث والتراكمات التاريخية السلبية حتى أصبحنا عالما عربيا مجزأ شكلياً وفعلياً، تغمره التناقضات، والمناهضات المتبادلة، بل تسير به الأحوال إلى ما هو أدهى وأشد، فبصرف النظر عن «الإنتفاضة» القولية العربية الأخيرة خلال القمة العربية في تونس، وبصرف النظر عن أنها جاءت مطعمة ببعض المواقف الجريئة، المشكورة على كل حال، إلاّ أن أكثر ما بات يدعو إلى كثير من التساؤلات السلبية، ما نشهده في هذه الايام، من «طحشة» مؤسفة لدى البلاد العربية ولدى بعض المسؤولين العرب، الذين أخذوا بالمجاهرة في الدعوة إلى التطبيع مع إسرائيل، وإن لطّفوا هذه العبارة بكثير من المقدمات والمقبّلات، حتى لنشهد أحد الوزراء الأساسيين في حكومة بلد عربي شقيق يطالب بمد خيوط التواصل مع الكيان الصهيوني، مبرّرا ذلك بأنه سيكون توطئة عربية للحفاظ على حقوق الفلسطينيين!! مع الإشارة إلى أن دولا عربية قد سبق أن عقدت صلحا مع إسرائيل لأسباب ومبرّرات اعتمدتها وغاب عنها تطبيع شعوبها مع الكيان الصهيوني. بصورة حازمة وملفتة للنظر تمرّ هذه التصرفات المؤسفة وكأنها مسيرة طبيعية للأحداث المستمدة، ودونما ردات فعل عملانية ملموسة، سواء على المستوى الرسمي أم الشعبي.
ان تكليف دولة الكويت بمتابعة كل هذه القضية، بما فيها قضية الجولان المستجدة، أمام مجلس الأمن، والأمين العام لجامعة الدول العربية لدى المؤسسات الدولية والقضائية المختلفة بما فيها محكمة العدل الدولية، وإن بقية المقررات التفصيلية، أمر مطلوب ومشكور في كل الأحوال، ولكن المطلوب أن يتحرّك العرب جميعا كأنهم دولة واحدة في إطار من التضامن الوثيق وإن لم يكن الأمر كذلك، وموقف سياسي واقتصادي وتنموي واحد وإن لم يكن الأمر كذلك حتى الآن. وقبل كل ذلك والأهم منه، إزالة كل تلك الخلافات العبثية المختلقة والمتراكمة القائمة ما بين معظم الدولة العربية، لأسباب مزروعة في ما بينها من الولايات المتحدة وإسرائيل وسواهما من الدول ذات المصالح في هذه الأرض العربية وذات الأطماع الجشعة في ثرواتها ومواقعها الاستراتيجية، ونستغرب حقا تصرّف قطر التي حضرت افتتاح اجتماع القمة العربية في تونس، ثم سارعت إلى الانسحاب منها، وذلك عنوان شديد الدلالة على عمق المناكفات والمصادمات القائمة ما بين بلداننا، وهذا أمر غير جائز بأي مقياس من المقاييس القومية والوطنية.