IMLebanon

«الشِّدّة» اللبنانية

 

يصعب العثور على قطاع اقتصادي أو اجتماعي، تربوي أو صحي، ثقافي أو ترفيهي في لبنان لا يعاني أزمة بنيوية تكاد تطيح به. الاستثناءات التي تغنى بها المسؤولون واعتبروها ركناً منيعاً يحمي استقرار البلاد، كقطاعي المصارف والعقارات، تعيش أزمات لم تعهدها من قبل.

الوجه الآخر للأهمية التي يحتلها قطاعا المصارف والعقارات هو وجه اقتصاد دفع دفعاً لأن يكون غير منتج، ضمن وظيفة سياسية – اقتصادية للبنان عفّى عليها الزمن وأخفق اللبنانيون في العثور على بديل لها منذ نهاية الحرب الأهلية في 1990، يضاف إلى ذلك أن مصادر الدخل التي كانت تعتمد على السياحة وعلى تحويل أموال اللبنانيين العاملين في الخارج معرضة لتهديدات جسيمة لأسباب تمتد من تدمير البيئة وتلويثها وصولاً إلى الخيارات السياسية للحكومات اللبنانية.

واليوم يزداد تدفق من يظنون أن إقرار الموازنة سيكون على حسابهم، إلى الشارع؛ خصوصاً من موظفي القطاع العام الذين تدور مفاوضات بين أطراف الائتلاف الحكومي لتخفيض رواتبهم أو التقديمات الاجتماعية التي يحصلون عليها، أو على الأقل عقلنتها والتخفيف من التعويضات الفلكية المخصصة لهم في بلد تذهب نصف موازنته تقريباً لخدمة الدين وفوائده المركبة.

مشكلة الموازنة التي يمكن حلها بالمزيد من البهلوانيات المالية، ليست أسوأ ما يعيشه اللبنانيون؛ ذاك أن تهالك الخدمات العامة وتفاقم الفساد يعكسان في واقع الأمر تجذّر الانقسام الطائفي السياسي، من جهة، والعجز عن التوصل إلى توافقات بين اللبنانيين على حد أدنى لتصوراتهم عن المصلحة المشتركة، عن معنى العيش في بلد واحد ومبرر وجود دولة واحدة إذا كان ما يفرق اللبنانيين، وليس القيادات السياسية – الطائفية، عميقاً إلى هذا الحد، في وقت يتآكل فيه هامش الحرية عبر استدعاءات أمنية واعتقالات وتعذيب حتى الموت، تطال كلها المواطنين الذين اختاروا أو اضطروا إلى البقاء خارج مظلة الحماية الطائفية، وعبر تدهور سريع لوسائل الإعلام وقدرتها على أداء مهمتها كخدمة عامة للمواطنين في المقام الأول.

ومنذ ستينات القرن الماضي، كان واضحاً أن المعضلة اللبنانية غير قابلة للعلاج بالوسائل التقليدية. فكل غلبة طائفية هي مقدمة لحرب أهلية وعادة ما تكون نهاية هذه اتفاقاً أبتر لا ينجم عنه إلا التحضير لجولة مقبلة من الحرب.

كلام كثير كتب، في نصف القرن الماضي، عن ارتباط ظاهرة الطائفية بالحداثة وبتوسع رأس المال الغربي إلى المشرق ومساهمته في صياغة كيانات جديدة أقدر على حماية ذاتها وعلى تحقيق مصالح نخبها في آن. لكننا الآن وصلنا إلى ما يشبه الطريق المسدود. فما من قوة ترغب في اندلاع اقتتال طائفي جديد بسبب وضوح نتائج هكذا مسار من دون السير فيه. وما من قوة، في المقابل، تقدر على فرض بديل يتسم بمضامين اجتماعية واقتصادية وثقافية (وهذه الأخيرة شديدة الأهمية لكل مشروع يطمح إلى الهيمنة).

لبنان فيما يشبه «الشِّدّة» حيث يتحالف القدر والبشر على جعل الحياة جحيماً على الأرض وحيث تنسد واحداً تلو آخر أبواب الأمل، فلا يبقى إلا انتظار الفرج الذي قد يحمله الغيب ذات يوم. «الشدة المستنصرية» التي أصابت مصر في زمن الخليفة الفاطمي المستنصر بعد انحسار مياه النيل طوال سنوات سبع في القرن الحادي عشر (ميلادي) وشهدت مجاعات وفظائع ما زالت أخبارها محفوظة في بطون الكتب، فاقم أهوالها سعي القادة والأمراء إلى التربح منها واستغلال الجوع والفقر لبناء الثروات والاستحواذ على المناصب وتوسيع النفوذ. ولم يجد المستنصر من حل لهذه الكارثة غير الاستعانة بواحد من القادة، بدر الجمالي، الذي جاء من فلسطين إلى القاهرة ليعيد فرض النظام وليصبح الرجل القوي في الدولة الفاطمية.

علتنا في لبنان أن أحداً لا يأمل في ظهور «بدر الجمالي»، ليس بمعنى الفرد المنقذ والقائد الملهم الذي يختصر في شخصه خلاص البلاد من مآزقها المتعددة، فحسب، بل أيضاً بمعنى الافتقار إلى تصور لمشروع وطني عابر للطوائف والهويات الفرعية يصوغ سياسات تقوم على المصلحة العامة التي ما زال مواطنونا يمتنعون عن تحديدها، لأسباب سال في شرحها حبر كثير، من دون فائدة على ما يبدو.

ولعل هنا، في هذه الهوة الفاصلة بين القدرة على تشخيص الأزمة وفهمها وبين انعدام أدوات علاجها والخروج منها، تكمن السمة المأساوية «للشدة» اللبنانية التي بلغت في العهد الحالي مبلغاً قياسياً قضى على كل رؤية مستقبلية، فيما تبدو أطراف الائتلاف السياسي مقيمة في عالم مواز تسيّره الصغائر والتوافه.