عودة إلى مطلع سبعينيات القرن الماضي. التعبئة على أشدّها وسط قواعد قوى الجبهة اللبنانية، وفي مقدّمها حزب الكتائب بقيادة بيار الجميل، وألعاب سياسية تقليدية يقودها كميل شمعون، وحشد مسيحي جمع كل الأقطاب من الشمال إلى الجنوب خلف قادة المسيحيين في جبل لبنان، ومعهم «الجيش الأسود» الذي مثّل قاعدة الهرم في الكنيسة. كلّ هؤلاء عبّروا، في أشهر قليلة، عن رغبتهم في إقامة كانتون مسيحي يقيهم شرّ مطالب المسلمين بتعديل صيغة الحكم من جهة، ويبعد عنهم حلم اليسار بنسف النظام الطائفي، ويقيهم «شر» العروبة التي يرونها اسماً حركياً للإسلام. ولم يكن هؤلاء يحتاجون إلى من يقرأ لهم وقائع المنطقة والعالم، وسط صراع جدي بين قيادة منظمة التحرير في لبنان، ودمشق بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد. فيما عملت السعودية بالتفاهم – الدائم – مع الأميركيين على صيغة لا تجعل الانفجار في لبنان يخرج عن حدود هذا البلد الصغير.
اليوم، يمكن لأيّ لبناني أن يستمع إلى روايات عن الحرب الأهلية، يسردها سياسيون يلعبون دور «الحكواتي». لكن، لم يخرج علينا، بعد، مؤرّخ يُشهَد له بعلمه وموضوعيته ليقدّم رواية كاملة لا تحابي أحداً، وتقفل الباب على «الأمجاد الوهمية» لغالبية القوى التي انخرطت تدريجياً في حرب أهلية قاسية ومدمّرة ضربت كل لبنان، قبل أن يطلق الخارج صفارة انتهاء اللعبة بعدما أُنهك جميع اللاعبين، وندخل في تسوية غير مكتملة ارتاح خلالها اللبنانيون، وعدلوا في مقاعدهم، قبل أن يعود الخارج اليوم إلى تشجيعهم على دورة جديدة من العنف، لتحصيل ما يفترضون أنه الأفضل لهم. وحجة الخارج على اللبنانيين أن التعديلات في طبيعة القوى التي قادت آخر فصول الحرب الأهلية، لا تزال ممسكة بالقرار اليوم، ومن استجدّ وجاء معبّراً عن تعديل في التمثيل السياسي لهذه الجماعة أو تلك، لم يفعل أكثر من الجلوس مكان مَن كان قبله، لكنه لم يغيّر في قواعد اللعبة أو المقاربة.
في تلك الفترة، قرأ خصوم الجبهة اللبنانية في حراكها رغبة بتقسيم لبنان، والذهاب نحو حماية يقدّمها الغرب بواسطة إسرائيل. وهو عنصر مقلق بحد ذاته، فكيف إذا ترافق مع انخراط قسم كبير من اللبنانيين في دعم مباشر وعملي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو أمر تعزّز بعد خيانة أنور السادات التاريخية التي جعلت حافظ الأسد يعدل من نظرته إلى شكل التسوية في لبنان، ويدخل بعدها في حرب طويلة مع الأميركيين وحلفائهم من العرب. وكانت الحركة الوطنية تلعب دور الواجهة العامة لتحالف فيه خليط من القوى الطائفية والمذهبية والعلمانية والفلسطينية والسورية. وقد فشل كل هؤلاء في معالجة ما يمكن وصفه بـ«المسألة المسيحية» في لبنان.
اليوم، ثمّة عمل جدي ومنتظم ومثابرة حقيقية، من قبل مجموعات تعتقد بأن تجربة السلم الأهلي بين عام 1991 وعام 2023 ثبت أنها غير مناسبة للمسيحيين، وأن فكرة العيش في حكم ذاتي فكرة مجدية وقابلة للتحقّق. وبمعزل عن كل البحث الجغرافي والطبوغرافي والديموغرافي والاقتصادي والمعيشي، فإن اختصار أحلام هؤلاء يمكن وضعه في سردية صغيرة تقول: «ستكون لدينا المساحة الجغرافية الممتدّة من جبل الريحان جنوباً حتى حدود القبيات شمالاً، وفيها تعرّجات شرقاً وغرباً، وهي كافية ليعيش فيها أكثر من مليوني نسمة. وفيها بوابات عبور إلى الخارج بحراً وجواً، من دون الاضطرار حتى للعبور البري، ويمكن لابن هذه المناطق أن يسافر في رحلة تقوده إلى مطار، يجد في انتظاره أهله، أو من يخدمه ليصل إلى منزله، ومن ثم سيكون هناك في خدمته كل ما يحتاج إليه للتسوّق والترفيه، كما يمكن إقامة مواقع عمل خاصة تقوم على فكرة التجارة العامة، ومراكز العلوم المتقدّمة التي تحتاج إلى عمالة سوداء أقل، ويكون لهذه المنطقة قطاعها المصرفي، ووحداتها الإدارية، وقوتها الأمنية والعسكرية التي تؤدي وظيفة الأمن الداخلي، فيما يجري البحث عن حياد بضمانة قوى كبرى في الإقليم أو العالم… ونقطة على السطر.
هكذا يختصر التقسيميون فكرتهم، ولديهم إجابات افتراضية حول العلاقة مع بقية البلاد، وهم يقيسون هذه العلاقة من زاوية المنفعة والتبادل التجاري من جهة، وكلّ بحسب موقعه الطائفي والمذهبي أو الفكري. لكنهم لا يعتقدون بأن أهالي بقية لبنان سيشكلون خطراً حقيقياً عليهم، بل سيكون هناك تعاون مثمر، لأن أصحاب هذه النظرية مؤمنون بأنهم الأفضل في العلم والتجارة والعلاقة مع الخارج القريب أو البعيد، والأرقى اجتماعياً، ولديهم ما يتوق الآخرون للحصول عليه. وحتى مشكلة العمالة السوداء، يجدون لها حلاً على ما يقول قس يعيش في بلاد المهجر، إذ يمكن «استقدام نحو مئة ألف من أقباط مصر وإثيوبيا، هم كل ما نحتاج إليه من عمالة سوداء، ومن يتجذّر منهم في أرضنا، وينتمي إلى إحدى كنائسنا، لن يشكل توطينه خطراً فعلياً علينا».
قلّة تحرّض على الانفصال، لكنّ مزاجاً عاماً ينمو بين المسيحيين فيه ترهيب ورفض للآخر
منعاً للغرق في هذه الأوهام، تجدر الإشارة إلى الذين يخطّطون لأمر كهذا، ليسوا سوى أقلية فاعلة بين المسيحيين. لكن ما هو لافت، ويحتاج إلى عناية، يتعلق بالمزاج العام السائد لدى غالبية مسيحية، ما يساعد أصحاب هذه التصوّرات على التوسع في عرض أفكارهم، ورفع مستوى الأوهام بقرب قيام الدولة المنشودة. وقصة المزاج مرتبطة بجهد التقسيميين، لكنها تتأثّر بالتطورات الجارية في لبنان، حيث باتت سهلة العودة إلى تعميم منطق الخوف عند المسيحيين، وإقناعهم بأن عدواً حاضراً يقف على الأبواب. ولا يحتاج المهوّلون إلى نقاش كبير مع الناس، وهم لا يأبهون لأي سؤال عن هوية هذا الخوف الذي كان ذات مرة سنياً ناصرياً أو بعثياً، ثم صار علمانياً سورياً أو عراقياً، أو يسارياً شرقياً، قبل أن يتحول إلى شيعي إيراني، مع تجدّد الخوف من الفلسطيني الذي يريد أخذ لبنان بدلاً من فلسطين، أو السوري الذي لا يريد العودة إلى بلاده لا طوعاً ولا غصباً.
لكنّ التجربة علّمت الجميع بأن تعزيز هذا المزاج لا يكون إلا برفع منسوب الخوف من الآخر. وبسلوك جرّبه كل الانفصاليين في العالم، فإن الخوف يجب أن يكون حاضراً في كل خطوة، من الأكل والشرب والسكن والتعليم والعمل والدين والسياسة، وهي لعبة تجيدها قوى تجذّرت يمينيتها على مرّ عقود وقرون، وتتّخذ طابعاً فاشياً يشبه كل الحركات الانفصالية في العالم، والقسوة علامة راسخة في سلوكها مثل خطابها، والتعميم عنصر أساسي في التعبئة حتى لا يكون هناك مجال لأي تردّد أو ظن أو شك في هوية الآخر. لكنها، أيضاً، فاشية وإقصائية ليس فقط في وجه الآخر، بل أساساً وسط بيئتها، إذ لا تقبل صوتاً سائلاً أو مناقشاً، وتتعامل مع أبناء الرعية الرافضين على أنهم أهل ردّة وجب قتلهم قبل صياح الديك، وهو أمر حصل في كل العالم، وشهدناه في لبنان، عندما قرّر حزب الكتائب ومتفرعاته أن نقاوة الدماء تتطلب فحص الأقربين قبل الأبعدين، وأنه لا مجال حتى لدور خاص بالكنيسة، فإما أن تكون جزءاً من المعركة أو لا حاجة إليها وسيطاً للوصول إلى الإله المحفور اسمه أعلى السهم الموجّه إلى صدور الرافضين.
* غداً: النسخة الجديدة من التقسيميين