لا، ليست الحياة عادلة غالباً، لكن كي نحياها علينا أن نثق دائماً انها لا بُدّ أن تُصحّح في يومٍ ما أخطاءها. جو جبر، دي- جي جو، شابٌ يشرقط الفرح من عينيه، مليء بالحبّ، مليء بالإحساس، مليء بالأهداف، وُلد بشللٍ دماغي، في مجتمع فيه حبّ وفيه غرور وفيه تنمّر وفيه كثير كثير من التهميش. جو، البطل جو، جعلنا نبتسم وندمع في آن. إنه نموذجٌ حيّ عن لبنان، عن لبناننا، الذي يسيء من حيث يدري- أو لا يدري- الى الإنسان الذي في كلِ واحدٍ منا وفينا. جو عانى من كل ذلك لكنه أمسك بمفتاح الحياة ساخراً من كل من سخروا منه لأنه مختلف عنهم كاتباً لهم: «أضحك عليكم لأنكم نسخة عن بعضكم».
باب بيته مفتوح، وهو يجلسُ متأنقاً على كرسيه، يبتسم لنا كثيراً، يلوّح لنا كثيراً، ويجيب على ابتساماتنا بعينين مفعمتين بحبٍّ قد لا نشعر بدفئِهِ إلا من جو، وأمثال جو، ممن يصنَّفون مختلفين. شابٌ جميلٌ هو، طوله 193 سنتمتراً، لكنه عاجز عن الكلام وإن كان قادراً جداً على التعبير. هو مصاب بالشلل الدماغي منذ ولادته. منذ تلك اللحظة التي لم يطلق فيها صرخة حياة مدوية حين خرج من بطن أمه. أتت صرخته، لنقص الاوكسيجين في دماغه، خافتة جداً فأيقن الجميع أنه لن يكون بخير.
والد جو، الياس، لا يتركه لحظة. هو البداية دائماً في كلِ خطواته، خصوصاً بعدما اصبح «مشهوراً» في عالم الـ»دي جي». نراه يبتسم كثيراً لسماعه كلمة «مشهور». يبدو في غاية السعادة، فما سرّه معها. يجيب متمتماً بتعابيره: «سرّ السعادة إنو السعادة تضلّ سرّ». إجابته تكشف لنا سريعاً أننا أمام شاب ذكيّ جداً، يقظ جداً، ومتميز جداً جداً.
يسأل والده: شو بدا تسألني؟ هو يُحب ان يَسأل لا أن يُسأل. التحق في صغره بمؤسسة «سيسوبيل» لذوي الإحتياجات الخاصة. درس الكومبيوتر وتكنولوجيا المعلومات. و»ركّ» على دراسة اللغة الإنكليزية بنفسِهِ. له من العمر 25 عاماً والحياة بطولِها وعرضِها يفترض أن تكون امامه. لكنه في التصنيفات العامة: معوّق. أما في تصنيفه الذي آمن به منذ وعى: أن الإعاقة هي عند الإنسان العاجز وهو مليء بالطاقات. لم يتقبله المجتمع في البداية. «لم يتقبلوا إضطراباتي الحركية ومعاناتي من صعوبة الإتزان والنطق. لم أهتم. لا أهتم بكلام الناس بل بإحساسي وبقدراتي». نُنصت بدقة الى حركات شفتيه وتعابير وجهه وجسده ليصلنا إحساسة وكلماته وفي كلِ مرة نفشل والده موجود لنقل الأفكار كاملة. فهما باتا أشبه بواحد.
يكتب فنقرأ فكرة أراد إيصالها لنا: «كنت واقفاً في مار مخايل، على الرصيف، أنتظر والدي، ليساعدني على الدخول الى عملي، حيث ألعب «دي جي»، فمرّ أحد الساهرين وأعطاني 20 ألف ليرة. خالني شحاذاً. فالمعوّق بنظر الكثيرين شحاذ. قلت له: شكراً، أملك أكثر منك. أملك قدرات قد لا تملكها أنت».
لم يتقبله كثيرون بسهولة. أما اليوم فالشاب جو قد برز. إنطلق. يخبرنا والده بذلك فخوراً. كل الإعلام يتّصل به. كل الناس تقصد «النايتات» التي يعمل فيها. هو دي جي غير شكل. وأهم ما فيه أنه يفرح لفرح الآخرين وكلما شعر بذلك أصبح مثل موتور الديزل لا يتعب. يبتسم مجدداً لكلام والده الذي نقل افكاره كما هي. وكأنه يريد إيصال هذه الفكرة بالذات الى كل من يشك بقدراته.
هو شابٌ يتعلم منه الشباب والمسنون. هو شخصٌ أبى أن يرضخ لكلمة فشل قائلاً: «ما في شي إسمو فشل: يا بتنجح يا بتتعلم». هو نجح وتعلم.
مش فارقة معو
يطلب من والده وضع اللوحة الإلكترونية الخاصة به على الطاولة، وربطها بالأزرار الكهربائية، لأداء «وصلة» من إعداده تتناغم فيها الموسيقى الأجنبية والعربية و»إنت عمري» لأم كلثوم. هو يلعب على جهازه ونحن نحيا لحظات جميلة، نراقب فيها إحساسه العالي، فنتغلب على أحاسيس دفينة كثيرة فينا. ونطالبه بعد وبعد وهو يؤدي فرِحاً سعيداً ممتلئاً بأحاسيس من يتمتع بها يكون إنسانا كاملاً.
كثيرون شكّوا بقدراته. «هكذا هم الناس. يقسون غالباً ولا يتقبلون «المختلف» شعوراً منهم أنهم، إذا لم يعانوا من إعاقات ظاهرة، أقوياء، متميزون. هو «مش فارقة معو». هو قويّ جداً ومحصن جداً ليواجه هؤلاء لكن، بينه وبين نفسه يعترف: «قسوا علي أحيانا. وكنتُ كلما طلبتُ عملاً وذهبت لملاقاتهم ورأوني «ينقزون» ويقولون لي: نتصل بك لاحقاً. وهذه المقولة باللبناني معناها: وداعاً. لكن هناك قلّة ممن تجاوزوا «التصورات المسبقة» وأعطوه مجالاً وأتاحوا له المشاركة إجتماعياً بحقٍّ من حقوقه وهو العمل. ومعهم انطلق. وأكثر ما كان يقهره هو سماعه من يقول له: الله يشفيك! فممَ سيشفيه الله؟ هي حالة مستديمة اعتاد هو أن يتعايش معها فلماذا لا يفعل المجتمع أيضا ذلك؟ هنا يتدخل والده بالقول: «ربنا أعطانا إياه، هو صغير البيت أتى بعد ولدين: داني وجويل، وهو بات القلب والنبض والروح والحياة. هو، كما هو، روح الروح. وليت كل هؤلاء، ممن قالوا عنه: يا حرام، أدركوا في حينها أنه أحسن وأفضل من كثيرين. هو جو ويثبت يوماً بعد يوم أنه مميز متميز بارع قادر على مواجهة كل شيء ولا مفرّ، في قاموس جو، من المواجهة».
كسر العزلة
أبى هو أن يتقوقع حول نفسه كما القنفذ. أبى أن يهرب من «العداء» الإجتماعي بالعزلة. وها قد نجح.
يعتل جو همّ الكهرباء. هو يسكن في الطبقة الأولى ويضطر والده ان يحمله نزولا وصعوداً على كتفيه. يفعل ذلك بفرح غير ان جو يظل يربت على كتفيه مردداً: تعبان؟ وضع له درابزين يساعده على الإمساك به قليلا ليصعد وحده. يحاول والده ان يؤمن له بعض الحقوق البسيطة التي تمكنه من الإعتماد على نفسه مردداً: «تبقى نِعم الربّ كثيرة».
أصحابه كثيرون. هم يخصصون وقتاً له وهو يبتسم لهم ويمنحهم تلك السعادة، السرّ، التي تحدث عنها «فالصداقة الحقيقية كما العلاقة بين العين واليدّ، إذا تألمت اليدّ دمعت العين وإذا دمعت العين مسحتها اليدّ».
أوّل ما ينظر إليه جو، في الآخرين، هو عيونهم ومن خلالها يكتشف أسرار كل واحد. ومن يسمعه يتهامس عن حالِهِ يواجهه بصوتٍ عالٍ بتعابيره: «دينتي الموسيقية قوية لدرجة أنني ما بسمع حكي العالم». نسأله: هل تسبب لك أحدهم بحزنٍ كبير؟ هل أبكاك أحدهم؟ يسارع بالإجابة: «ما حدا ببكيني». والده يعود ليتدخل هنا شارحاً: «يسمع أحيانا تنمراً وتجريحاً عبر صفحاته على السوشيل ميديا فيسارع الى حظر الفاعل. إنه يأخذ هكذا تصرفات بروح باردة».
أحبّ جو. وتقارب مع صبايا تعرف اليهنّ عبر الفيسبوك لكن حين عرفنَ بحالِهِ إبتعدنَ. هو عاطفي جداً وصادق جداً ولا ينسى أبداً كلمة أساءت إليه. لكنه يحاول، في المقابل، أن يأخذ الأمور بمزاح. نسأله: كم مرة أحببت؟ يجيب: «15 مرة». عمله عزّز ثقته بنفسه وجو بعد أن أصبح الدي جي جو ما عاد نفسه قبله.
يوم التفجير الكبير، في الرابع من آب 2020، أصيب جو. كان يجلس جنب النافذة وتسبب الزجاج المتطاير بجروح في مختلف انحاء جسده وقدميه. والحمدالله «ظمط».
نسأله عن احلامه اليوم فيجيب: «حققت أحلامي». هو يعرف كيف يشكر الله على عطاياه وكلما اسودّت الدنيا في وجهه يقول: يا مارشربل. يضيف «من تلات سنين كنت مفكر إنو الصليب يلي حملني ياه كتير كبير عليّ وما كنت إقدر إحملو وكنت ضلّ نقّ بس مع الوقت تعلمت إحملو بفرح».
ما بعمرو الحزن دق بابو وفتحلو. هذا أجمل ما سمعناه من فمه. ويقول لكل من لم يؤمنوا بقدراته وما زالوا: «بيحقلي عيش واشتغل كل شي وشو ما كان».
ينظر حوله. ينظر في عيون والديه الياس وغلاديس وشقيقه داني وشقيقته جويل فيرى أن الدنيا جميلة. ويستذكر مشاعر الإحباط التي حاول البعض، من خارج الدائرة المغلقة، بعثها فيه فيعود ليكرر: «الناس أحياناً غير عادلين لكنني قوي جداً حتى على مسامحتهم».