بغض النظر عن مصير استقالة الوزيرين الكتائبيين، وحقيقة الدوافع التي أمْلت على رئيس هذا الحزب التاريخي، اتخاذ هذا الموقف المفاجئ، فالوضع السياسي، بما فيه المشهد الحكومي، لم يكن بحاجة للخطوة الكتائبية، للتأكد من حالة التردّي والاهتراء التي وصل إليها.
القوى السياسية، شخصيات وقيادات وأحزاب، تدور في حلقة مفرغة حول الفراغ في رئاسة الجمهورية، في نوبات متوالية من الخواء السياسي والوطني، الذي يُبطل التفكير بأبسط الموضوعات المطروحة.
والمفارقة – المأساة فعلاً، أن معظم الأطراف السياسية استسلمت للرقصة القاتلة في الحلقة المفرغة، التي تضيق الخناق على الدولة ومؤسساتها، وذهبت بعيداً في استثمار هذا الفراغ المريع في المؤسسات الدستورية والرقابية، عبر صفقات تُنظم المحاصصة في نهب موارد الدولة والهيمنة على مقدراتها!
وبدا واضحاً، يوماً بعد يوم، أن الطبقة السياسية أعفت أطرافها وقياداتها من المسؤولية الوطنية في الاستحقاق الرئاسي، بعدما وضعت الصراعات الدولية والإقليمية المحتدمة حولنا، متاريس على أبواب قصر بعبدا، تحول دون إنهاء الشغور في رئاسة الجمهورية، قبل التوافق على حلول للحروب المشتعلة في المنطقة!
فماذا ينتظر اللبنانيون من قيادات سلّمت زمام قرارها للخارج، وتحوّلت إلى مجرّد كومبارس على المسرح الإقليمي؟
* * *
كان لا بدّ أن ينعكس هذا المشهد السياسي الدرامي على الوضع الحكومي برمته، وعلى تراجع إنتاجية مجلس الوزراء إلى حدود تصريف الأعمال تقريباً، فضلاً عن فشل اللجان النيابية المشتركة في التوصّل إلى مشروع موحّد لقانون الانتخابات العتيدة!
وإزاء تراكم مربعات الفشل، الواحدة فوق الأخرى، وتفاقم عجز الطبقة السياسية عن إيجاد الحلول الآنية والمؤقتة، تجنباً للوصول، إلى الانهيار الشامل، يصبح الوضع السياسي أكثر تعقيداً، وكأن ثمة مَن يدفع بالبلاد والعباد إلى دوّامة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، تضع الجميع أمام حائط مسدود، وتجعل من مسألة إعادة النظر بالنظام الحالي، قضية مصيرية، بحجة العمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل سقوط السقف فوق رؤوس الجميع!
* * *
المشكلة، الوطنية بامتياز، التي يُعاني منها البلد، أن السياسيين اللبنانيين لم يعتادوا حل مشاكلهم لوحدهم، وكانوا يتكلون دائماً على الأشقاء والأصدقاء، لإنقاذهم من حروبهم وأزماتهم التي لا تنتهي.
المندوب البريطاني في لبنان حسم الخلاف بين الدستوريين والكتلويين لمصلحة رئيس الحزب الدستوري الشيخ بشارة الخوري الذي أصبح أول رئيس لدولة الاستقلال.
وكذلك الإيحاء البريطاني رجّح كفّة كميل شمعون على حميد فرنجية في رئاسة الجمهورية عام 1952.
وأدى التفاهم الأميركي – المصري على إنهاء أحداث عام 1958، والمجيء باللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية.
وساعد التدخل المصري على إنهاء الأزمة الحكومية المستفحلة والتوصل إلى اتفاق القاهرة بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1969.
وتحوّلت لجان وزراء الخارجية العرب إلى فرق إطفاء لإخماد نيران الجولات في الحرب اللبنانية التي استمرت خمس عشرة سنة، وحطت أوزارها في مؤتمر الطائف، الذي رعته المملكة العربية السعودية، والتي كان لها الدور الأساس في إنهاء الحرب القذرة، والتوصل إلى ميثاق وطني جديد، انبثق عنه «دستور الجمهورية الثالثة»!
وبعد الطائف، تولت سوريا إدارة البلد سياسياً وأمنياً، ووزعت الأدوار بين السياسيين، في الأزمات، كما في الاستحقاقات!
وبعد الخروج السوري عام 2005، ذهب السياسيون إلى مؤتمر الدوحة بعد أحداث 7 أيار الأسود، واتفقوا على إنهاء الشغور الرئاسي الأول بانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً، والعودة إلى صيغة الحكومات الائتلافية!
* * *
في كل تلك المحطات التاريخية، كان لبنان، بصيغته الفريدة، يحتل الصدارة في الأجندة الإقليمية والعربية، وكان الوضع اللبناني المضطرب يلقى اهتماماً سريعاً من الأشقاء العرب، وخاصة مصر والسعودية.
أما اليوم، فالأمر اختلف جذرياً: لبنان لم يعد أولوية، لا في الأجندة الإقليمية، ولا في النظام العربي، والسبب بسيط وبديهي: الأولوية حالياً، عربياً ودولياً، لإخماد النيران المشتعلة في سوريا والعراق واليمن وليبيا، ومواجهة مخاطر التمدّد الإيراني في أكثر من بلد عربي، حيث أصبحت الخلافات اللبنانية – اللبنانية من نوع الترف السخيف، بالنسبة للعديد من العواصم العربية والدولية، التي فقدت ثقتها بقدرة العديد من القيادات اللبنانية الحالية، على تحمّل مسؤولياتها!
ما العمل إذاً، في ظل إصرار الطبقة السياسية على التهرّب من واجباتها الوطنية المصيرية، وتصرّ على تحميل هذه المسؤولية للأطراف الخارجية؟
هل يستطيع الرئيس نبيه برّي دق النفير على طاولة الحوار، واستنفار أقطابها لإنهاء حوار الطرشان، والعمل جدياً على إيجاد الحلول والمخارج المناسبة، قبل فوات الأوان؟
تساؤلات تقلق كل لبناني خائف من المصير المجهول!