بين خيارات الهجرة أو الحنين إلى الفدرالية
إذا تخففت القيادات المسيحية من ديبلوماسية الخطاب السياسي، لنقلت عن جمهورها رأيه الفج، حتى تخوم «العنصرية»، بكل من ايران والسعودية. ليست الدولتان ممن يتمثل ويتماثل بهما مسيحيو لبنان. هؤلاء تدغدغهم عناوين الحرية وحقوق المرأة والحق في التعبير والمعارضة والخروج عن الجماعة. قد لا يعكسون ما يشتهون في سلوكياتهم، انما يبقون مشدودين اليها كقيم واسلوب حياة. ووفق ما يصلهم ويعرفونه، فان كلا البلدين ليس أليفا مع هذه المفاهيم.
ومع ذلك، يقدّر المسيحيون للسعودية أنها شرّعت لهم الابواب للعمل والنجاح، وحتى الاثراء لبعضهم. العودة منها مضمونة، بلا اوجاع الهجرة والتغرّب. لكن العائد منها لا يحمل الا الكسب المالي فقط. فليس بسيطا مثلا، ان يقيم الناس عمرا في بلد ولا يعودون منه بصداقات فردية او عائلية.
أما ايران، فبلاد بعيدة. الصورة «الجميلة» عنها تعود الى «فتى العروبة الاغر» الرئيس كميل شمعون يستقبل الشاه وزوجته. جمالية الصورة تنحصر باطلالة السيدتين في المطار زلفا وثريا. التحالفات والمحاور تفاصيل لا يتوقفون عند ذكرياتها كثيرا.
أخبار ايران ما بعد الثورة، وما قبل سطوع نجم «حزب الله»، لم تكن على لائحة الدول التي تعني المسيحيين اللبنانيين بالمباشر. لا حباّ بالعرب ولا كرها بالفرس. هي حسابات وحساسيات معقدة تضرب عميقا في الهوية والتباساتها، وفي المصالح وتعقيداتها، وفي مقاربة شؤون الدين والدنيا، وبعض حدودها جبل لبنان.
خلط صعود نجم «حزب الله» الكثير من الاوراق. أثارت تعابير جديدة دخلت الى القاموس الديني ـ السياسي مثل «التكليف الشرعي» و «ولاية الفقيه»، تماما كما اهتموا ببعض العادات الجديدة في اساليب حياة جزء من الشيعة اللبنانيين.
بقيت ايران بعيدة، الى ان كان التحالف بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر». من يومها صارت «حليفة الحليف» قوة داخلية يمكن الركون اليها في مواجهات الداخل.
هكذا، خاض المسيحيون مواجهات في محورين متقابلين، الاول، تدعمه السعودية والثاني، تدعمه ايران. مواجهات بقيت محصورة في الموقف وتبادل الاتهامات والتوصيفات، وحدّها الاقصى «نبش القبور».
اليوم، تلوح في الافق اجواء تصعيد. يتدرج موقف السعودية من الاستياء الى الغضب. وايران، على ابواب تطبيق اتفاقها النووي، لم تخلع بعد بذتها العسكرية. يتولى «المستقبل» و«حزب الله» ترجمة مواقف الفريقين باللغة اللبنانية المحكية. لكن لا يبدو ان المسيحيين راغبون بالانخراط في الصراع المحتدم. فهل يملكون هذا الترف؟ وان امتلكوا القدرة على تجنب صراع من هذا النوع، هل يملكون الامكانية لتجنب تداعياته عليهم؟ وكيف يكون ذلك؟ هل تفتح ابواب الهجرة مجددا على مصراعيها ام تبرز مجددا اصوات تطالب بـ«حياد ما بين النهرين»، او الفدرالية بتعبير آخر؟
الفكرتان تحضران بقوة. لكل واحدة منهما اسبابها الموجبة. فها هم معظم مسيحيي الشرق من سوريا الى العراق، وقبلهما فلسطين، قد اقفلوا بيوتهم وهجروا مدنهم وقراهم ولم يتركوا وراءهم لا أحلام او اوهام عودة.
أما التفكير بالفدرالية فيكثر الهمس حوله ويرتفع. ويتحول في الكثير من الاوساط مشروعا ومبررا كخيار يبعد شبح الحرب والفتنة عن جماعات لا تريد الانخراط فيها. ويكتسب صداه وسط كل الفدراليات المقنعة أو المرتسمة في المنطقة، ووسط تحلل حدود الدول وتخلخل الدول نفسها.
لكن أما من خيار آخر غير هذين الخيارين؟ وهل يمكن للمسيحيين أن يقوموا بدور وسيط او ممتص للصدمات او اي دور ايجابي بين القوتين الداخليتين المتواجهتين، تجنبا لانهيار الهيكل على الجميع؟
يجمع ممثلو الاحزاب المسيحية على ما يمكن اختصاره بوجوب النأي بالنفس في مثل هكذا ازمة كبرى. هل هي حكمة مستجدة عند قياداتهم او هو الاقرار بالضعف؟