ما يجري في اوروبا حاليا على مستوى التمهيد لتطبيق قوانين واجراءات شبيهة بقانون فاتكا الأميركي، لوقف عملية التهرّب الضريبي لمواطني هذه الدول في الخارج، لا ينعكس على لبنان من حيث العمل المصرفي فحسب، بل انه قد يطرح معضلة معقدة تتعلق باضطرار عدد كبير من اللبنانيين الى التخلي عن جنسياتهم الرديفة، وفي مقدمها الجنسية الفرنسية.
منذ البدء في تطبيق قانون فاتكا الاميركي للامتثال الضريبي، والقائم على فكرة استيفاء الدولة الأميركية للضرائب من مواطنيها خارج الحدود، وقطع الطرق على التهرُّب الضريبي، بدأت حكومات دول غربية، وفي مقدمها دول الاتحاد الاوروبي، في دراسة جدية لاقرار قانون مماثل، يسمح لحكومات هذه الدول بالكشف على حسابات وحركة الاموال لمواطنيها خارج حدود كل دولة، وصولا الى النتائج التي يستهدفها قانون فاتكا.
هذا التوجه الاوروبي يسير بخطى حثيثة، وهو لا يبدو بعيدا من حيث الفاصل الزمني. وفي العام 2013 وجهت حكومات كل من فرنسا والمانيا وبريطانيا واسبانيا وايطاليا رسالة الى المفوضية الاوروبية للمطالبة بتشريع جديد على نمط القانون الاميركي لمكافحة التهرب الضريبي المعروف بـ»فاتكا».
وانضمت بولندا لاحقا الى المبادرة. ومنذ ذلك الحين، قطع الاتحاد الاوروبي شوطا كبيرا في هذا المجال. ولا تزال هناك بعض الاعتراضات التي تحتاج الى معالجة، خصوصا ان القوانين المتعلقة بالضرائب، تحتاج الى إجماع. وهذا يعني ان اعتراض اية دولة في الاتحاد الاوروبي كافية لمنع أقرار اي قانون ضريبي جديد.
لكن الأزمات المالية والاقتصادية التي تضرب منطقة اليورو، بالاضافة الى البدء في تطبيق قانون فاتكا، واضطرار كل دول العالم الى الرضوخ للقانون والتقيد بمندرجاته، كل ذلك يوحي بأن الاتحاد الاوروبي متجه الى قانون ضرائبي جديد يمكن أن يضخ مئات المليارات في موازنات الدول الاوروبية في حال تطبيقه. وهذه الموازنات هي في امس الحاجة الى هذه الاموال.
بالاضافة الى منطقة اليورو، هناك جهود دولية للوصول الى قوانين ضرائبية تمنع التهرّب الضريبي خارج حدود كل دولة. وفي هذا الاطار يندرج الاتفاق الذي جرى في برلين مؤخرا، والذي تعهدت فيه 51 دولة غالبيتها اوروبية، بتبادل المعلومات حول الأرصدة المصرفية لرعاياها خارج نطاق حدود دولهم في حلول العام 2017.
وما يزيد من أهمية هذا الاتفاق أن بلدانا مثل سويسرا وإمارة ليختنشتاين وجزر العذراء البريطانية وجزر كايمان، وكلها معروفة انها جنات ضرائبية، سوف تمتثل لمندرجاته.
الوضع في لبنان
هذا التوجّه العالمي نحو الغاء الحواجز القانونية التي كانت تفرضها بعض الدول وتسمح بالتهرّب الضريبي، ستكون لها تداعياتها على لبنان. والانعكاسات هنا لا تتعلق بالسرية المصرفية فحسب، بل بوضع اجتماعي استثنائي يفرضه واقع ان عددا كبيرا من اللبنانيين، بينهم وزراء ونواب ومسؤولون، يحملون جنسية ثانية الى جانب جنسيتهم اللبنانية، خصوصا الجنسية الفرنسية التي حولت اللبنانيين الى ناخبين في الانتخابات الفرنسية، حيث تفتح السفارة الفرنسية ابوابها للسماح بمشاركة اللبنانيين-الفرنسيين في الانتخابات الفرنسية.
وتملأ صور الطوابير المشاركة وسائل الاعلام. وفيما يجاهر بعض المسؤولين بحملهم الجنسية الفرنسية، ويتعمدون التقاط صور لهم خلال مشاركتهم في الانتخابات الفرنسية، يفضّل آخرون التسلّل بصمت واداء واجبهم الانتخابي بعيدا من الكاميرات.
هذا الواقع يطرح تساؤلات عن القرار الذي سيتخذه هؤلاء عندما يبدأ تطبيق قانون فاتكا الاوروبي، خصوصا ان الاتجاهات القائمة حاليا، تشير الى ان اوروبا سوف تعتمد قانونا اكثر تفصيلا من فاتكا، ولن تحصر الجباية الضرائبية من مواطنيها خارج الحدود بالثروات من سقف محدد وما فوق، بل انها قد تعمد الى تعميم القانون ليشمل كل الفئات، بمن فيهم الموظف العادي.
واذا كان القانون الفرنسي يسمح للمواطن الفرنسي بالخضوع الى النظام الضرائبي للبلد الذي الذي يعيش ويعمل فيه، فان هذا القانون قد يتم تعديله بحيث قد يصبح الفرنسي مُلزماً بدفع الضرائب وفق القانون الفرنسي، بصرف النظر عن البلد الذي يعمل فيه. وفي هذه الحالة ستكون المشكلة معقدة جدا، وستنعكس بوضوح على المجتمع اللبناني.
وتشير المعلومات الى ان قانون فاتكا، ورغم اهمية الجنسية الاميركية وصعوبة الحصول عليها، قد أدّى حتى الان الى تخلي عدد من اللبنانيين عن هذه الجنسية، والاكتفاء بالجنسية اللبنانية المتسامحة في الضرائب، وفي كل انواع الهدر. وبالتالي، فان أعداد اللبنانيين الذين قد يتخلون عن جنسياتهم الفرنسية ستكون كبيرة جدا.
وما يزيد في المخاوف، ان البعض يهمس بأن الدولة الفرنسية قد تكون متحمسة في المستقبل القريب، خصوصا في حال وصول اليمين الراديكالي الى الحكم، الى إقرار قوانين ضرائبية من هذا النوع، لا تهدف الى ملء الخزينة بالاموال الهاربة فحسب، بل تدخل ايضا في استراتيجية خفض عدد «النازحين» الى الجنسية الفرنسية. اذ ان الفكرة المطروحة حاليا، تنصّ على تغيير القوانين الفرنسية، لمنع اي مواطن من حمل جنسيتين، واختيار جنسية واحدة.
ومن ثمّ تطبيق قانون ضرائبي صارم خارج الحدود. ومثل هذا الاجراء، يخدم توجهات اليمين الفرنسي، الذي يبحث عن حلول للدخلاء على فرنسا، وهو يعتبر ان هذا الاجراء سيؤدي الى تخلي أعداد كبيرة من الأجانب، عن الجنسية الفرنسية، والعودة الى جنسيتهم الأصلية. ولن يكون اللبنانيون في منأى عن هذه التداعيات.
اما السرية المصرفية، والتي لا تزال قائمة من حيث المبدأ، فانها ستخضع لاستثناءات كثيرة سوف تجعلها هزيلة، وستفقد أهميتها العملية، التي كانت وراء تحويل لبنان الى مقر مالي اقليمي تصعب منافسته.