الكل يعترف بحنكة الرئيس نبيه بري وحكمته وحسن إدارته للبرلمان. هو نجم المجلس منذ ربع قرن. يأسر متابعيه تلفزيونيا بحركة مطرقته ضابطاً، وبنبرته الجنوبية حازماً ودوداً. تزيده ثقافته الأدبية تميزاً، وخبرته الطويلة نجومية.
يمتهن بري لعبة إدارة المجلس. يقمع نائباً أو يتسامح مع آخر. يستفزه الهجوم على المقاومة فيتدخل في كل مرة مصوّباً او مقاتلا.
عميد البرلمانيين العرب يحسده نظراؤه العرب لإتقانه فن السياسة الممكن. في صيف عام 2014 زاره مفكر عربي مرموق، متمنياً عليه القيام بوساطة إقليمية ترفدها «لجنة حكماء عرب» لوقف نزيف الدم في المنطقة. خاطبه بالقول: العرب والمسلمون ينتظرون مبادرة كهذه يا دولة الرئيس لوقف التأزم الذي يرتدي لبوساً مذهبياً بين السنة والشيعة.
لم يعط بري حينها جواباً. اكتفى بهز رأسه. يومها كان يحضّر لحوار بين «حزب الله و «المستقبل» في عين التينة، فدشّن بتلك المبادرة أول خطوة لتقريب المسافات بين السنّة والشيعة، في زمن الأزمات الإقليمية المفتوحة.
حينها، خفيت على المفكر المرموق محاولات جَهِدَ بري من أجل نجاحها سراً بهدف وأد الفتنة القائمة بين الرياض وطهران، عبر وقف الحرب اليمنية. لو نجحت تلك الوساطة، لكانت جنّبت كل الأفرقاء خسائر كبيرة.
التباين مع «التيار الوطني الحر» و «تيار المستقبل» قبل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية لم ينل من دور رئيس المجلس. تلاشي التباين ثبتته مجرياتُ جلسة انتخاب الرئيس ومسار تأليف الحكومة، ثم السرعة في تحديد جلسات الثقة النيابية، قبل الشروع بترجمة المعادلة البِرّية نفسها في رحلة البحث عن قانون انتخابي جديد.
يعترف سعد الحريري بممر عين التينة الإلزامي. ينسجم في مساره هذا مع وليد جنبلاط. يشكلان معا البيئة الإسلامية المؤمنة بريادة رئيس «أمل». مسيحياً، يرتفع منسوب ذاك الإيمان عند «المردة». لكن ماذا عن «الثنائي الماروني»؟.
في خفايا خطابات سمير جعجع غزل قواتي بـ «دولة الرئيس». خفت منسوبه مؤخرا مداراة للحليف العوني. لا مصلحة لـ «الحكيم» بالتصادم السياسي مع «أمل». قد تشكّل «الحركة» الممر الشرعي للولوج إلى قبول شيعي مستقبلي بـ «القوات». سبق أن نجح جعجع منذ عام 2005 في كسب ودّ معظم السنّة، قبل إتمام المصالحة المسيحية مع العونيين واتخاذ «مصالحة الجبل» عنواناً للتقارب مع الدروز.
هكذا، تصبح العلاقة القواتية مع القوى الشيعية ضرورية في حسابات جعجع. مستشاره النشيط ملحم رياشي يمارس طقوس الانفتاح الوطني. يدأب خلال مقابلاته على الإشارة إلى فكر الإمام موسى الصدر. دور رياشي هو تعزيز التواصل والحوار. فهل ينجح في كسب الود المفقود مع القوى الشيعية؟ لِمَ لا؟ الوزير المستشار كسب الرهان في المصالحة المسيحية. أعطاها بُعداً روحانياً. البُعد نفسه ينطلق منه رياشي مستنداً إلى «الإنسان الذي يجمعنا» لإمكانية التقارب مع «الثنائية الشيعية».
ملحم رياشي علامة فارقة في الفريق القواتي، يمتهن كإعلامي مخاطبة الرأي العام. يرتكز على البُعد الطبقي ويطرح القضايا الاجتماعية الجامعة. كأن ملحم آتٍ من مناخات «لاهوت التحرير». بالطبع تشكل استراتيجية «الحكيم» دافعاً لتكتيكاته السياسية. جميعها صفات تقرّب المسافات الوطنية، وتدفن القطيعة أو التصادم السياسي إلى غير رجعة.
قد يحتاج جبران باسيل إلى «ملحم عوني» أو إلى ممارسات أكثر مرونة تستكمل مشاريع التفاهم التي نفذها «التيار البرتقالي»، خصوصاً أن الأرضية الوطنية متوافرة عند العونيين. قد يشكل جوهر قانون الانتخابات العتيد مساحة مشتركة بين «أمل» و «التيار الحر» للمضي قدماً بالعلاقة إلى بر التعاون. النيات الإيجابية عند الطرفين موجودة، تحتاج إلى ترجمة سياسية. أبوة «التيار» للعهد الرئاسي الجديد تفرض انفتاحه السياسي على صياغة تفاهم وطني عام يفرض الإصلاحات المنشودة. تشكل عين التينة ممراً لتأسيس التفاهم العريض وزيادة الإنتاجية السياسية حكومة ومجلساً نيابياً وما يتفرع عنهما في إدارة شؤون البلاد.
بعد نيل الحكومة الثقة، فُتحت معركة قانون الانتخابات. هي المعيار لرسم معالم المرحلة السياسية المقبلة. إمّا الانفتاح أو الانغلاق. وحده «الحكيم» يعلم أنه ليس بعدد النواب وحدهم ولا بالحصص الوزارية تحيا «القوات»، بل بقدرته على توسيع التفاهمات السياسية. يتخذ رئيس «القوات» المصالحة المسيحية قاعدة للانفتاح، بعكس «التيار البرتقالي»، أقله في حدة الخطاب السياسي المسيحي.
قد تختلف حسابات «التيار» بعد الحكومة، او تكون حسابات جعجع مستقبلاً مختلفة عن رؤية باسيل، تحديداً بشأن العلاقة مع بري. فهل ينجح «الحكيم» بتقريب المسافات مع «الثنائي الشيعي» عبر عين التينة؟
قد يتضح الجواب قريباً.. فلننتظر.